التعددية المذهبية والوحدة الوطنية

4٬366

استضاف منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف الشيخ محمد صالح الدحيم، قاضي وزارة العدل السابق في الرياض مساء الثلاثاء 23/ ربيع الآخر/1429هـ الموافق 29/ ابريل/2008م محاضرا عن التعددية المذهبية والوحدة الوطنية، وقد أدار الندوة الأستاذ فؤاد نصر الله معرفا بالمحاضر، وهو خريج كلية الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تتلمذ على يد العديد من المشايخ البارزين في الحقل الأكاديمي، حاصل على بعض الدورات التطويرية، ومعد لبعضها الآخر، عمل قاضيا في وزارة العدل، ثم تفرغ لأعماله الفكرية، وهو محامٍ ومستشار شرعي وقانوني، مفكر وكاتب وصحفي، وعضو في الجمعية الوطنية لذوي الفاعلية العالية، كما وأنه المؤسس والمشرف العام على مركز التجديد الثقافي، له العديد من المؤلفات، منها (عقلية الخوف ومنطق المواجهة)، و(تعلمت من الحياة).

وقد قدم مدير الندوة للمحاضرة بكلمة عن التعددية القادرة على استيعاب كافة الخلافات، واستثمارها لخلق الوحدة والتكامل الحقيقي للوصول إلى مرفأ آمن في ظل الاضطراب الذي تعيشه الأمة اليوم؛ معززا مقدمته بقراءتين فكريتين، أولاهما كانت مقالا للشيخ محمد المحفوظ نشره في جريدة الرياض، وفيه تحدث عن مخرجات تجربة التعدد الفقهي والمذهبي على المستوى التاريخي، مشيرا إلى أنه لم يكن مظهرا من مظاهر الانقسام والتشظي في الدائرة الإسلامية؛ بدليل الحيوية العقلية والفكرية والمناخ الحر الذي طور عملية الاجتهاد ونشوء الاتجاهات الفكرية السياسية.

أما القراءة الثانية، فكانت من كتاب (الاجتماع العربي الإسلامي، مراجعات في التعددية والنهضة والتنمية) للسيد محمد حسن الأمين، أشار فيها إلى إدراك العلماء عدم انقسام المسلمين في عهدهم الأول بنشوء المذاهب، ليقينهم بكونه تعبير عن حيوية عقلية أدت إلى تشعب الآراء لاستنباط النصوص الشرعية على نحو أغنى الإسلام عقيدة وشريعة، وأتاح للمسلمين أن يمارسوا أعمق أشكال الحوار المنطقي والعلمي.

وقد بدأ الشيخ الدحيم محاضرته بالحديث عن عنوان المحاضرة، وكونه ليس عنوانا جديدا، بل قديما؛ شكلت كثرة تعاطيه أزمة، لما رسخت في الأذهان من فكر من هم ليسوا أهلا للحديث فيه، مؤكدا على أهمية ممارسة الوعي الذاتي في التعاطي مع مفردات هذا العنوان العريض بطرح أسئلة صحيحة تتكفل الحياة بإجاباتها (فالحياة أجوبة).

وأشار الضيف إلى أن الحديث حول هذا الموضوع تركز في أغلبه على الجزء المهمش في مفردتي الوطن والمذهب مقابل تجاهله المحور المحرك لهما، فتجنب بذلك أسئلة كبيرة اختفت على إثرها أجوبة عظيمة، وطرح بدوره بعض هذه الأسئلة في محاولة للدخول إلى لب القضية، (فهل كانت هناك أزمة يؤرخ لها، أم أنها أزمة حادثة؟ كيف حدثت، وماهي ظروف نشأتها التي حصل فيها الانقسام؟ ولمصلحة من تدار القضية؟)

ثم تحدث عن مخرجات هذه الأجوبة والأزمات التي تواجهها، مشيرا إلى كونها أمور طبيعية تحتاج فقط لإثارة المزيد من الأسئلة المنطقية التي من شأنها توسعة أفق التعاطي مع هذه المفاهيم وبلورتها، يساهم في تحقيق ذلك تعاضد الفكر الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

بعد ذلك، تحدث الشيخ الدحيم عن الأزمة التي تواجهها هذه القضية في انحصار دور نقاشها على علماء الشريعة والدين الذين انقسموا على أنفسهم ما بين متشدد يرفض الحضور والتفاعل، ووسطي خافت الصوت خضوعا لجمهوره أو أسرا لمصالحه، متسائلا عما يحتاج التعدد، ومجيبا بعدم كفاية الاحترام والتقدير الذي يطالب به بعض المفكرين كأساس للتعاطي مع الأطراف المختلفة، ومؤكدا على أهمية الإيمان بالحق والحق الآخر، إشارة لاستحالة تفرد طرف ما بالحق كله، حيث أن الحقيقة هي مجموع ما لدى الجميع من الحق، تتكامل بقدر ما تقترب الأطراف الفكرية والمذاهب من بعضها.

وفي حديثه عن الأصل في نشأة المذاهب، أشار لأهمية العودة للتاريخ لاستيعاب كونها تراكمات فهمية يعجز الإنسان عن التخلص منها والانفصال عنها؛ مع استطاعته التحكم في تأثيرها عليه حتى لا يكون المحدد الرئيس لما يجب أن يكون عليه مستقبله، داعيا إلى أهمية (الفهم الجديد) الذي تتطلبه طبيعة الظروف التي نعيشها، مؤكدا على أن مهمة الإنسان السامية في الأرض عمارتها وليس تدوين تاريخها، إشارة لمن يقرأ التاريخ من أجل البحث في ما استهلك قرونا.

وتحدث المحاضر عن مفهوم الوحدة، وخطأ اقتصار الحديث عنها في الأزمات فقط، مقابل جهل معانيها الحقيقية التي يجب الالتفاف حولها، موضحا أن ذكر الوحدة في سياق التعدد لا يعني المنهج الواحد والفكر الواحد الذي يلغي المساحات الاجتماعية في دوائرها الفكرية المتنوعة، بقدر ما يعني المحافظة على وظائف هذه الدوائر الثلاث، والمتمثلة في دائرة الاعتقاد التي لا تقبل تدخلا خارجيا فيها، ثم دائرة المجتمع المرنة، القابلة للتغيير، وأخيرا دائرة الفكر المنفتح، مؤكدا على مساحة الخصوصية التي تقدمها كل دائرة في التطبيق والسلوك الاجتماعي.

وحول مفردة الوطن، ذكر المحاضر أنها مفردة لا تزال غير متبلورة، رغم تجذرها في النفس الاجتماعية بصورة لا تحتمل معها أن تساوم عليها، بيد أن الجرأة في التعاطي معها أضحى سببا لإرباك جيل صاعد لا تزال تتجاذبه طبيعة التحولات الثقافية والفكرية التي يعاصرها، وأشار إلى أن انعكاس مفردتي الوطن والتعددية أمر فطري وواقعي في الإنسان يخشى وجود من لا يقبل باستمراريته، الأمر الذي يتطلب مواجهته من قبل العلماء والمفكرين في ظل رهانات اجتماعية قائمة.

وأشار كذلك إلى مقومات الوحدة الوطنية والتعدد المذهبي المطلوبين، ومثلها في رفع مستوى الوعي الحضاري بالتسامح والحوار بتجاوز التنظير لهما إلى تنفيذهما واقعا بعيدا عن الحوار المشروط، كذلك البدء بمشروعات مشتركة تصب في الوعي الاجتماعي، تعززه رغبة الجميع على تنمية المجتمع، ثم قراءة مستقبل الجيل القادم بدقة، بعيدا عن تراكمات الانقسامات والاختلافات الماضية، وأخيرا، عدم المساومة على الوطن والوحدة الإنسانية، وفي ختام حديثه، وجه الشيخ سؤالا مفتوحا حول إمكانية تحقيق ذلك لحمل الرسالة المحمدية لتكون حقيقة رحمة للعالمين كما خططت لها السماء.

من جانبه، شارك الحضور في تعزيز الحوار بمداخلات قيمة بدأها الدكتور توفيق السيف بإضافة على ما ذكر المحاضر في أصل تكوين المذاهب، مشيرا لكونها نشأت أصلا كرد فعل على أحداث سياسية، فكانت بذلك تيارات سياسية في مبتداها أو اجتماعية لأغراض سياسية.

وتساءل الشيخ حبيب الخباز عن سبب قراءة المسلمين بشتى مذاهبهم للتاريخ بشيء من التعصب والكبرياء، بعيدا عن العقل الذي احترمه الإسلام كقيمة، مؤكدا في ذلك على ما يقوم به بعض العلماء والمفكرين أنفسهم وليس عامة الناس، الأمر الذي وافقه فيه المحاضر متسائلا عن المستفيد من ذلك كله، مؤكدا على أهمية تجاوز هذه الأسئلة لتحقيق تقدم عبر نقل التاريخ المشرق وترك ماهو دون ذلك، داعيا لإنشاء مؤسسات تتكفل بدراسة الكم الهائل من الأحداث التاريخية.

وطرح الأستاذ علي الموسى سؤالا عن إمكانية قيام وحدة وطنية في ظل غياب العدالة الاجتماعية؛ ليشير الشيخ بعد موافقة لمفهوم العدل الممكن الذي لا بد أن يعمل به العالم والباحث، منوها لغياب مفهوم العدل أساسا في مختلف شؤون الحياة بدءً من الأسرة والبيت.

الأستاذ جعفر الشايب، تحدث عن ضرورة وجود نماذج تعزز هذه المفاهيم وتحولها من مجرد أفكار نظرية إلى واقع عملي، متسائلا عما إذا كانت منطقتنا تضم نماذج فعلية، وعن كيفية خلقها في حال غيابها، وعلق المحاضر بأهمية أن يكون الأمر متاحا للجميع دون التركيز على إيجاد نماذج لاختلاف الظروف بين مجتمع وآخر.

كما أشار الأستاذ محمد الشيوخ لصعوبة المطالبة بتوظيف التعددية في مجتمع لم يصل بعد لمرحلة الاعتراف بوجود الآخر المختلف, ودعا لتفعيل الحوار الوطني وليس المذهبي في المملكة، وأكد الأستاذ عبد الرحمن اللاحم على أن الحوار الوطني قد أدى وظيفته في ترسيخ قيمة الحوار، وأنه قد حان حين الانتقال لسن تشريعات قانونية لتجريم الممارسات المعيقة للحوار والتعددية الفكرية، الأمر الذي من شأنه تهيئة بنية تشريعية لتكون أساسا مدنيا يدفع بالأفكار النهضوية القائمة.

الشيخ حسن الصفار تحدث عن أهمية حيادية السلطة تجاه الشأن المذهبي في المجتمع المنوع مذهبيا، مؤكدا على مخالفة الواقع لذلك في مجال التربية والتعليم والقضاء وغير ذلك من مجالات الحياة الاجتماعية، وأشار إلى أن الاعتبار في التعامل لابد أن يكون منطلقا من المواطنة وليس المذهبية حتى يصبح الحديث عن التعددية أمرا واقعيا وحقيقيا، ونبه إلى أن فقد هذا الاعتبار من شأنه جعل الحديث عن التعددية مجرد طموح وتطلع للتغير.

وكان الأستاذ جعفر الشايب قد عرّف بكتاب الأسبوع ضمن نشاط المنتدى للنشر الثقافي، وكان كتاب الحوار المذهبي في السعودية، لمعده الشيخ محمد المحفوظ، حيث شارك بالكتابة فيه الشيخ محمد صالح الدحيم نفسه ونخبة من الكتاب.

 

لمشاهدة الصور اضغط هنا

 

قد يعجبك أيضاً

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق أقرأ المزيد