المشهد الثقافي والفكري في إيران

3٬692

ضمن أنشطته الثقافية الأسبوعية، استضاف منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف الباحث اللبناني الشيخ حيدر حب الله مساء الثلاثاء 24 شعبان 1424هـ الموافق 14 أكتوبر 2003م متحدثا حول المشهد الثقافي والفكري في إيران، ويشغل الشيخ حب الله رئاسة رئيس تحرير مجلة المنهاج الفكرية الصادرة في بيروت إضافة إلى كونه أستاذا بالحوزة العلمية في قم، وله مجموعة من الأبحاث المطبوعة في لبنان، وقام بترجمة كتب عديدة من اللغة الفارسية والعربية.

بدأ المحاضر بمقدمة عن نظرة المراقبين للتحولات في إيران بقوله أن الكثيرين ينظرون إلى التطورات السياسية في إيران، كمنجزات وإخفاقات خلال تجربة قيام الثورة الإسلامية فيها، ويغفلون التأثيرات الثقافية والفكرية التي تبعتها سواء داخل الحوزة العلمية أو خارجها، وباعتبار أن التجربة لا زالت حية وقريبة من الجميع ومحل استفادة للعالم الإسلامي بصورة عامة من أجل تجاوز الإشكاليات، لذا فمن الضروري الإطلاع عليها ومتابعتها والتعرف على تأثيراتها المختلفة.

واستعرض المحاضر الاتجاهات الثقافية الرئيسة على الساحة الإيرانية وهي: الاتجاه التقليدي، الاتجاه التجديدي بشقيه من داخل الحوزة ومن خارجها.أولا: الإتجاه التقليدي (المدرسي): وهو يتمثل في أغلب الشخصيات الدينية الذين تصدوا لمقام المرجعية أو بعض أساتذة الحوزات العلمية في مدينة قم المقدسة بالخصوص وكذلك في مشهد وأصفهان، واهتمامات هذا التيار هي نفسها المتعلقة بالموضوعات التقليدية والإهتمامات الدراسية ككتب العبادات والأبحاث الفقهية المعروفة والملخصة في مجموعة مصادر أساسية منها الجواهر ومستمسك الحكيم، ومستند الخوئي، والتيار التقليدي تيار معروف ومألوف في عموم الساحة الشيعية داخل إيران وخارجها، وبيده حاليا الكثير من مواقع النفوذ.

ثانيا: الإتجاه التجديدي (الإصلاحي): هو عبارة عن اتجاهات وأطياف متعددة لدرجة التناقض، وينقسم من الناحية الفكرية – وهو مجال العرض – إلى تيارين رئيسيين:

الأول: الإتجاه التجديدي الداخلي (من داخل الحوزة): وهو يسعى إلى تطوير المنظومة المنهجية في الحوزة العلمية من داخل الحوزة وضمن نفس الأطر والمفاهيم والمقاييس التي تتماشى مع الحوزة ونظامها الفكري، وتختلف أساليب التجديد ضمن هذا الإتجاه باختلاف جرأتها التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام كالتالي:

أ‌- تيار تطوير لغة الخطاب: ويعمل على محاولة تجديد الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية من داخل المنظومة الفكرية الحوزوية بنفس الآليات الأصولية والفقهية المتعارفة والمتوارثة، فهنالك من يسعى إلى تطوير اللغة عبر صياغة المفاهيم السائدة وهو ما ألف عليه مفكرو الشيعة منذ الأربعينات الميلادية فقاموا بإعادة صياغة الأفكار السابقة وقدموها بأساليب أكثر عصرانية وأمثلة ذلك كثيرة منها اقتصادنا والفتاوى الواضحة للسيد الصدر والتي كانت مستمدة أساسا من الروضة وكتاب المفاسد وشرائع الإسلام، وفقه الإمام الصادق لمحمد جواد مغنية المستند على كتابي المكاسب وشرائع الإسلام، بل حتى على الصعيد الفلسفي طرحت كتب المطهري الأفكار ذاتها المستمدة من مدرسة ملا صدرا وملا هادي.

وكان ذلك منطلقا من الإعتقاد بأن تحويل هذه الأفكار الموجودة في بطون كتب التراث وعرضها بلغة معاصرة سيكون كافيا لتحقيق التقدم المنشود، ومن أبرز رموز هذا الإتجاه حاليا ناصر مكارم الشيرازي وهو أحد مراجع قم البارزين وله كتابات عديدة بلغة جديدة وعصرية تتناسب مع متطلبات الشباب وتقديم الإسلام لهم بلغة تناسبهم، وكذلك باقر الأيرواني – الذي انتقل مؤخرا إلى العراق – حيث سعى إلى تقديم العديد من المناهج الدراسية الحديثة منها دروس تمهيدية في الفقه الإستدلالي الذي أقر تدريسه رسميا في الحوزة منذ سنتين.

كما ألف دورة دروس تمهيدية في علم الرجال وتجربته تعتبر متميزة من ناحية تقديم لغة جديدة لتطوير المناهج، كما أن هنالك تجربة محسن قراءتي الذي تتميز بتطوير علاقات شخصية مع محدثيه عبر برامج تلفزيوينة ومحاضرات كسر فيها الحواجز التقليدية وطرحا بصورة تغلب عليها اللطافة والمزاح والبساطة وأثر بذلك على قطاع واسع من الشباب، ومن التجارب الإدارية المتميزة في هذا المجال تجربة السيد خامنائي في تأكيده على تطوير مناهج الحوزة العلمية وقد دفع لإدخال مواد علمية جديدة في الحوزة من بينها اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة.

ب‌- تيار تطوير المفاهيم الفقهية: تغلب على الحوزات العلمية الطابع الفقهي، ويعتبر الكثيرون مادتي الفقه والأصول هما المادتان الرئيسيتان في الدراسات الحوزوية برمتها، وهذا ما سبب في تأخر الدراسات القرآنية التي لم تبدأ إلا متأخرا في الحوزات العلمية ومثلها علوم الفلسفة والكلام، فمن النماذج التي تسعى لتطوير المفاهيم الفقهية السيد محمود الهاشمي الذي يمتلك الكثير من الآراء والمعالجات الفقهية الجريئة وهو على قناعة تامة بهذا التطوير إلا أنه يرى ضرورة التدرج في طرح وعرض الأفكار الجديدة، ومن آرائه أن آية الخمس لا تدل على خمس أرباح المكاسب خلافا للرأي السائد لدى عموم الشيعة.

وقد طبع له كتاب في بيروت تحت عنوان “قراءات فقهية معاصرة” عبارة عن ثلاثين مقالا في الفقه الحديث، ومن النماذج الأخرى في هذا المجال الشيخ حسن جواهري الذي قام بمعالجة وافية للعديد من القضايا المعاصرة بأسلوب متقدم كموضوع الإستنساخ والتلقيح الصناعي والمناقصات، كما أنه طرح آليات فقهية جديدة ولديه كتاب يلخص أبرز أعماله يقع في ثلاثة مجلدات، كما أن تجربة الشيخ محمد علي التسخيري التي جمعها في كتاب ذي أربع مجلدات تضيف مادة مهمة وتطل إطلالة تجديدية على بعض الموضوعات الفقهية ضمن عرض وتنظيم وآليات جديدة، ويمكن كذلك اعتبار مشروع ناصر مكارم الشيرازي ضمن هذا الإطار حيث أن لديه مجموعة من الفتاوى والإجتهادات التجديدية والجريئة والتي عادة ما تثير ضجة في الأوساط العلمية بين الفينة والأخرى.

مثل رأيه في الذبح في منى وفي رمي الجمرات حيث يرى بأن الأعمدة القائمة حاليا لم تكن معهودة على عصر الرسول (ص) بل كان المسلمون يرمون الجمرات في أرض فضاء وسقوط الجمرات عليها يكفي، وكتبت العديد من الردود على ذلك باللغتين العربية والفارسية، كما أن السيد الأردبيلي – رئيس السلطة القضائية السابق – له آراء ملفتة من قبيل رأيه في أحكام الإرتداد التي قد لا تنطبق على ما هو موجود الآن.

ت‌- تيار التجديد الفقهي: ويؤمن أصحاب هذا التيار بضرورة التجديد الفقهي العاجل وليس المتأني كما يراه التيار السابق الذكر، ومن أبرز رموز هذا التيار الشيخ يوسف الصانعي وهو من المتصدين للمرجعية وله آراء جريئة وخصوصا في فقه المرأة فمثلا يرى بضرورة الحصول على إذن الزوجة في حال التعدد، ويرى كذلك أن دية المرأة مساوية لدية الرجل، ويخالف من يقول بنقصان دية الذمي عن المسلم، كما يعتقد بكراهة الزواج الثاني، وناقش أيضا موضوع كون الطلاق بيد الرجل – الذي يعتبر عمدة بحث الطلاق – حيث لا يرى أن هنالك دليلا قرآنيا عليه.

أما الشيخ إبراهيم جنتي فهو من فقهاء التقليد وله كتاب “الفقه على المذاهب” ولديه آراء ومداخلات كثيرة في المواضيع الفقهية، فهو يرفض فكرة الإحتياط أصلا وذلك يدل على جرأة كبيرة لديه، وقد سبقه في ذلك الشيخ محمد جواد مغنية في تعليقه على موضوع طهارة الكتابي، وكذلك ممن خالف الإحتياط السيد مصطفى الخميني – وكان فقيها متقدما وقد أعيدت طباعة كتبه في الفقه والأصول والتفسير – وقد سبب ذلك في التشكيك في الكثير من البديهيات الفقهية الواضحة.

ومن الرموز البارزة والمتقدمة في هذا الإتجاه الشيخ صادق الطهراني صاحب كتاب “تبصرة الفقهاء” وهو موجه للفقهاء من إشكالات وقعوا فيها ويميل كثيرا إلى الإستنباط من القرآن الكريم ويعارض التيار الأخباري بشدة كبيرة، ومن آرائه أنه لا يرى الخمس في أرباح المكاسب، ويناقش الفقهاء في ما يطلقون عليه محرمات الإحرام ويرى بدلا عنها محرمات الحج مستدلا بقوله تعالى “فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج”، وأن الحل من الإحرام لا يحل الحاج من المحرمات المذكورة، كما أنه يرى زكاة النقدين ولا يرى إنحصارها في الموارد التسعة المشهورة بين الفقهاء.

الثاني: الإتجاه التجديدي الخارجي (من خارج الحوزة): ويسعى إلى القيام بتجديد فكري عبر تناغم بين عناصر جامعيين أو من خلفيات حوزوية ودراسات دينية، ولعل أبرز هؤلاء السيد محمد حسين المدرسي الطباطبائي وهو يستند في منهجه على أساس القراءة التاريخية وهو درس في الحوزة العلمية وحصل على شهادة الدكتوراه ويدرس الآن في إحدى جامعات أمريكا ويكتب معظم كتبه باللغة الإنجليزية وله دراسات تاريخية في الفقه وتطور المباني الفكرية للشيعة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى وتمت ترجمته للفارسية والعربية وأثار ضجة كبيرة.

ويعتمد الكتاب على قراءة الفقه وعلم الكلام قراءة تاريخية بحتة وهو موثق بمئات المصادر التاريخية، ويعتبر منهج المدرسي منهجا جديدا على الدراسات الحوزوية فهو منهج جاء من الغرب، وقد يكون أحمد الكاتب قد أخذ الكثير من أفكار المدرسي – وخاصة في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي – ولكنه تبناها على أنها مفاهيم عقدية بينما المدرسي يسردها دون أن يتبناها، وهنالك تجربة محمد شبختري الذي يتبنى آراء حقوقية جريئة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات الشخصية العامة، فمنها قوله بضرورة التخلي عن ما يطلق عليه بنظرية حقوق الإنسان في الإسلام انطلاقا من ضرورة التعايش مع الإنجازات الإنسانية في العالم عبر البحث عن حلول لبعض الإشكاليات البسيطة بصورة أو بأخرى، كما أنه يقول بأن الإمام علي (ع) لا يمكن اعتباره قدوة في تطبيق القضايا الحقوقية لأن تصرفاته كانت مرتبطة بظرفه التاريخي الذي قد لا يتطابق مع ظرفنا المعاصر.

ومن النماذج البارزة ضمن هذا الإتجاه أيضا محمد جواد أصفهاني وهو يقيم في أصفهان ومتقدم كثيرا في العمر وله كتاب بعنوان “ميزان الفقيه” كتبه أصلا بالعربية وترجمه للفارسية، ويعتقد بأن خبر الواحد ليس حجة في علم أو عمل، وله كتاب آخر بعنوان “البحوث الإستدلالية” وفيه منهج فقهي متكامل لا يقوم على خبر الآحاد، وذلك بالطبع يتطلب تعديل البنى الأصولية القائمة والإستعاضة عنها ببنى أصولية جديدة التي ترتكز أساسا على اليقين ضمن المتخيرات الشخصية، وهنالك تجربة مهدي التبريزي الذي طرح فكرة فلسفة الفكر والفلسفة المضافة الناشئة في المناخ الغربي وحاول نقلها للمناخ الفقهي ودعا إلى علم يدرس الفقه من الخارج وليس من الداخل ويعني أن الباحث يعتبر نفسه خارج إطار الإتجاهات الفقهية القائمة ويدرس الفقه كظاهرة موجودة في الحياة الإجتماعية العلمية، ودعا إلى دراسة علاقة الفقه ببقية العلوم كعلم الأصول وعلم الكلام والعلوم الطبيعية والإنسانية كعلم الإجتماع وعلم النفس.

ومن تجارب التجديد الخارجي أيضا الدكتور سروش الذي كان عضوا في اللجنة المركزية للثورة الثقافية في إيران وكتب مجموعة مقالات في مجلة “العالم الثقافي” ثم جمعها في كتاب سماه “القبض والبحث في نظرية الشريعة” وتمت ترجمته من قبل الدكتورة دلال عباس للعربية وقد أثار هذا الكتاب ضجة لأكثر من سبع سنوات متواصلة وكتبت حوله مئات المقالات وعشرات المؤلفات.

وتتلخص نظريته التي يطرحها سروش في هذا الكتاب أن كل العلوم البشرية مترابطة ومتداخلة فيما بينها مثل السبحة فعند تغير أو تحرك أي منها فإنها تؤثر بصورة أو بأخرى على العلوم الأخرى، وأي علم يخضع لتطوير أو تغيير فمن الطبيعي أن يترك ذلك أثرا في بقية العلوم الأخرى، ومؤدى هذه النظرية أن تطور العلوم الطبيعية يجب أن ينعكس على الفقه والعلوم الدينية المختلفة ليس بما ينسجم مع هذه العلوم بل بما يستدعي الإستجابة لتلك التطورات وبالتالي فإن قراءتنا للدين تتغير حسب التطورات العلمية، ويستشهد سروش بعدة قضايا تاريخية يثبت من خلالها أن المعرفة الدينية نسبية وأن كل إنسان يقرأ الدين وفق المناخ الثقافي الذي يعيشه، وقد رد عليه كثيرون أبرزهم صادق لاريجاني – عضو مجلس صيانة الدستور حاليا – وألف كتابا بعنوان “المعرفة الدينية” ترجم للعربية يدعي فيه بأن الفكر الإسلامي لا يمكن أن يكون بمعزل عن قارئ هذا الفكر وأن هذه النظرية ليست بجديدة في الفكر الغربي، أما النموذج الآخر فهو الدكتور ملكيان وهو صاحب نزعة علمانية.

 

قد يعجبك أيضاً

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق أقرأ المزيد