الهوية المبينة بالمجازات

3٬446

أمام ما يشهده العالم من تحولات متسارعة تتهدد أشكال حضور الجماعات الوجداني والفكري والمادي، يتقدم سؤال الهوية المشهد الإنساني على مختلف الأصعدة وفي مختلف الدول، حتى الأوروبية منها، وهو ما يشير إليه حجم الدراسات الصادرة فيها بهذا الخصوص، باعتباره التعبير الأجلى لقلق الكائن على خصوصياته وموقعه على خارطة الوجود.

ويختار الناقد علي الديري الذي شارك مساء الثلاثاء 28 ذو القعدة 1424هـ الموافق 20 يناير 2004م في منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف بورقة تحت عنوان “الهوية المبينة بالمجازات”، مطاولة هذا المفهوم من منظور مجازي على حد وصفه، منظور لا ينشغل باستدعاء المكرور من الأوصاف والمقولات واستحضاراتها الدائمة لمعنى الذات والآخر والخصوصية والأصالة، وإنما يذهب مباشرة إلى مراجعة دور اللغة وتأثيرات المجاز في صياغة فهمنا للهوية.

فاللغة التي تساعد في فهم الأشياء والتعبير عن إدراكاتنا، تساهم كذلك برأي الديري في إبعادنا عن إدراك بعض الأشياء، وتمارس بالتحديد شيئا من التضليل والإغواء بما لها من “أفاعيل السحر”. ولذلك، يعتقد بأن فهم اللغة وطبيعة اشتغالها مرتبط بتطوير موقفنا من كثير من المفاهيم التي ننتجها عبر اللغة وبالإفادة من مجازاتها، هذه المجازات التي تختزل البلاغة العربية الكلاسيكية وظائفها في الزخرفة اللفظية؛ فيما تبدو مع معطيات البلاغة الحديثة آلية للفهم والتفسير، فالإنسان – بحسب الديري – “يتوقع ويفهم ويفسر ويقرر ويتخيل ويستبصر ويستنتج ويتأمل عبر المجازات”.

ويعرض الديري لنموذج “الهوية الروزومية” الذي نحته لغويا المفكر الإيراني داريووش شايغان كمثال على توظيف المجاز في الخطاب، فالهوية وفق هذا التصوير المجازي تحيل على فكرة التلاقح وتجديد الذات، بمثل ما هو عليه نبات “الروزوم”، وهذا ما يحمل الديري على القول بأن شايغان قد أراد باشتغاله على هذا المجاز إحالة المفهوم المجرد إلى موضوع حسي، أي تعريف الهوية بالإفادة من تجربتنا الحسية، وهذه برأيه واحدة من وظائف المجاز الرئيسة.

من هنا، يعتقد الديري بأن الهوية ليست سوى مفهوم مجرد وضبابي، لا نملك القدرة على فهمه إلا حين نعمل على بنائه باللغة، فإذا استطعنا أن نركب الهوية بشكل جيد لغويا، فإن بإمكاننا أن نتعامل معها بنحو أفضل. نماذج عدة عرض لها الديري لشرح المنظور المجازي في مقاربة الهوية، كشف من خلالها فاعلية عائلة المجازات(التشبيه، الرمز، الاستعارة، والتمثيل) في التعبير عن وعينا بالهوية، وحاول الديري أن يرصد جملة من المجازات التي يتم توظيفها في الخطابات الفكرية السائدة، في قائمتين متباينتين بحسب الاتجاه الفكري، فمن يرى بأصل الثبات في مفهوم الهوية يبدي ميلا غالبا إلى استخدام مفردات كالجوهر والقلعة والأصالة والحماية والثبات والانتماء، فيما التصور المضاد يؤسس فهمه للهوية بالاتكاء على مفردات أخرى كالبناء والتمازج والاندماج والهجنة وغيرها، ولكل مفردة من هذه المفردات – وهي في عمومها تشير إلى موضوعات حسية – قدرة على التأثير في كيفية فهمنا للهوية وترتيبها.

لهذا، يجد الديري في مراجعة مجازاتنا ضرورة لفهم الكيفية التي تبني بها الهوية عبر المجازات، وذلك من أجل إنتاج وعي نقدي للخطاب، وإعادة تركيب تصور جديد للهوية، وهذا لا يكون على حد قوله إلا بتفكيك هذه المفاهيم، لنتحرر من خداع ظاهرها ونرى ما بالداخل. وكانت أسئلة الحاضرين قد ذهبت إلى التشكيك في اعتبار مسألة الهوية مجرد معضلة لغوية، وجدوائية منهج التفكيك الذي اعتمده الديري لمعالجة هذه الموضوعة الحساسة، بينما انصرف البعض إلى القول بأن الهوية ليست سوى ممارسة لا واعية بوصف بعض المفكرين، ولا تواجه مأزقا إلا في إفهام المنظرين لها، على اعتبار أن العامة أكثر قدرة على التعبير عن هوياتهم وتعريفها، في حين عد البعض الآخر ورقة الديري محاولة جادة لمساءلة تلك الرؤى التي تجعل من الهوية أمرا مطلقا وثابتا غير قابل للتغير والتحول..وقد عقب الديري على أسئلة الحاضرين مشددا على أهميتها ومؤكدا على انحيازه إلى آليات التفكيك لسبر أغوار المفاهيم وطريقة بنائها، كامتداد لمشروعه العلمي الذي يتصل بعلم الخطاب، وكمنهجية تبتغي تجاوز مآزق التفسيرات السائدة.

 

قد يعجبك أيضاً

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق أقرأ المزيد