عين – عبدالله بن محمد الوابلي
عندما يكون الحديث عن المفكر العربي الأستاذ إبراهيم بن عبدالرحمن البليهي فأنت ستكون أمام عاصفة مدارية لابد أن تتحلى وأنت تقف قبالتها برباطة الجأش لمواجهة ما سيتلوها من سيل منهمر من طروحات متقدمة ومتمردة على عطالة العقل وتوهماته الزائفة.
إنني أجد كل فكرة من أفكار هذا المفكر العظيم تستفز مخزوني الثقافي المتخم بالكثير من الغث وبالقليل من السمين، كما أشعر أن كل مفردة من أدبياته الفريدة تصنع زلفة في سلم طويل يخرجني من هوة الموروث العميق الذي أتمرغ في قاعه.
وبمناسبة الحديث عن هذا الفيلسوف العربي المعاصر فإنني أجدها فرصة للتنزه في رحاب مشروعه الفلسفي غزير الإنتاج لذيذ العطاء دان القطوف. هذا المشروع الذي دشن من خلاله علمًا أراه جديدًا على الفهم البشري إنه «علم الجهل» وأعتقد أنه بهذا التأطير الجذاب سبق غيره باكتشاف هذه المغارة السحيقة عندما حمل مصباح «ديوجين» فسبر أغوارها المظلمة، وجال في كهوفها الموحشة، ففكك بعقل نقدي رفيع سيكولوجية الجهل، ذلك البلاء العظيم الذي يصيب العقل البشري كما تصيب الأمراض الجسد، فيشكلان مع الفقر ثالوث التخلف الخطير(الجهل والفقر والمرض)، وفي هذا المشروع الفلسفي الحديث «علم الجهل» بارى «البليهي» الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون «1841م- 1931م» مؤسس «علم نفس الجماهير» الذي شخص من خلاله سيكولوجية الجماهير تشخيصًا دقيقًا لم يُسبق إليه من قبل.
دعونا ندلف – بدون استئذان – محمية «البليهي» الفلسفية لنستكشف ما تكتنزه هذه المحمية واسعة الأرجاء من النظريات والمقولات التي طورها بعد جهد عقلي شاق ومتواصل من القراءة والتفكير العميق على مدى ثلث قرن مضى، فجعل من هذه المحمية مشروعًا فكريًا تحت عنوان جامع (تأسيس علم الجهل لتحرير العقل)، أي عقل هذا؟ إنه العقل البشري عمومًا وليس العقل العربي على وجه التحديد.
لقد اعترف «البليهي» بالعقل البشري الذي هو أساس الحياة وعمودها الفقري فاختصه باهتمام كبير لا منازع له إلا «المعرفة» الرافعة الطويلة للعقل واعتبرهما توأمين – سياميين – لا ينفك أحدهما عن الآخر، فخصص لهما مساحات واسعة من طروحاته الفلسفية التي طرزها بنظريات لا تقل عمقًا ورواءً عن مقولات «علي الوردي» صاحب كتاب «مهزلة العقل البشري» ومن هنا أطلق مشروعه «علم الجهل» الذي جعل أساسه «توهم المعرفة» معلنًا (أن توهم المعرفة هو المعضلة البشرية الكبرى)، ولنقف برهةً عند هذه المقولة العميقة في مدلولاتها، لنكتشف أن بعض البشر ونتيجة لتوهم المعرفة قد استنزفوا كمًا كبيرًا من طاقاتهم في إعادة أنتاج أفكار تخلى عنها أصحابها أنفسهم. وضحايا « وهم المعرفة» يحسبون أنهم يحسنون فكرًا وهم في وهمهم يعمهون.
بين يدي ثلاثة كتب فقط من عقد كتب «البليهي» الفريد هي « الريادة والاستجابة» و«عبقرية الاهتمام التلقائي» و«الانسان كائن تلقائي»، طفت أفلي جميع هذه الكتب فوجدتها تنبض بأفكار إبداعية لم يجترها قائلها من أدبيات اهترأت كثيرًا بفعل تقادم الزمن، وقد قطفت من هذه الأفكار منظومة من الطروحات الرائعة التي لو جمعت في سلة واحدة لشكلت ملحمة إنسانية خالدة، سأذكر بعضًا منها على سبيل الطرح للنقاش والتحليل.
وكما أشرت آنفًا أن «البليهي» قد عشق العقل لحد الهيام فسار ولف ودار حتى وجده فوصفه لنا وصفًا دقيقا قائلًا عنه (العقل ليس أصيلًا في الطبيعة البشرية وإنما هو كيان ثقافي طارئ، وإن الإنسان لا يولد بعقل جاهز وإنما يولد بقابليات فارغة مفتوحة متعطشة للمثيرات، وهذه القابليات يحتلها ويكونها ويتحكم بها الأسبق إليها، وبذلك يكون الانسان مختطفًا قبل بزوغ وعيه، وحتى بعد أن يكبر الفرد فإن التصور الأسبق يتحكم بالعقل، فيتعزز الأسبق ويُرفض المغاير)،
وقال (إن العقل البشري قوامه الأنماط الذهنية والانفعالية)، وفي تثمينه للعقل النقدي قال (لا يكون العقل عقلًا إلا إذا صار فاعلية نقدية)، يا لها من حكم بالغة لو تفوه بها حكيم شرقي أو فيلسوف غربي لسارت بها الركبان ولطارت بها العقبان ولبحت من ترديدها الأصوات.
كيف نستكثر من «البليهي» تثمينه السخي للعقل؟ وقد قال عن العقل رائد البلغاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه (ربي من أعطيته العقل ماذا حرمته، وإن من حرمته العقل ماذا أعطيته؟).
في مقاربة ذهنية متوقدة نبه «البليهي» إلى مسألة بالغة الأهمية، إنها علاقة التأثر والتأثير بين» الأنماط التعليمية» و»الأنساق الثقافية» حينما فرق بينها في قوله (الأنماط منفصل بعضها عن بعض، فأنماط التعليم لها أنماط منفصلة عن الأنماط النسقية، لذا لم يؤثر التعليم والعلوم عمومًا في الأنساق الثقافية، لأن العلم يختلف نوعيًا عن الأنساق الثقافية التي هي ذات قوام معياري قيمي وليس معرفيًا، لذلك لا تتأثر الأنساق بالعلوم ولا بالأفكار الفلسفية، ولكل نسق ثقافي معايير وقيم ومنطق تختلف به عن الأنساق المغايرة) وسلط «البليهي» على الأنساق الثقافية ضوءًا ساطعًا لكشف حقيقتها فقال إن ( الأنساق الثقافية لا تتزاوج فيما بينها لأن لكل أمة تاريخ تشكل به نسقها الثقافي، فالأنساق الثقافية مغاير بعضها لبعض تبعًا لاختلاف مسارات تاريخ كل أمة، كما أن لكل فرد أنماط ذهنية وانفعالية مغايرة لكل الآخرين حتى لو كانوا من نسق ثقافي واحد).
ومن منطلق إنساني أممي لم تفلت الحضارة البشرية من شباك «البليهي» ولا من معاييره الثاقبة فأكد أن (الحضارة ليست طبيعة أصيلة في الوجود البشري فهي طارئة بعد أزمان سرمدية من التجوال، وأن الشعوب لا تزال مستنزفة ومستلبة في المجالات النفعية والاقتصادية، وما الازدهار الحاصل في العالم إلا ازدهار بالوسائل وقدرات التمكين)، لهذا يرى أن البشرية (لا تزال متخلفة في الفكر والأخلاق).
وعن الريادة والرواد أطلق «البليهي» إضاءةً جميلة جديرة بالالتقاط فقال (لا يولد الرواد مبدعين لكنهم يتعرضون لظروف تستفزهم وتثيرهم استثارة ملهبة، وبذلك ينفصل الرائد عن التيار السائد، كل التطورات نشأت من ومضات إبداعية فردية استثنائية)، وأنا بدوري أرى أن هذه المقولة تنطبق على «البليهي» نفسه كانطباق قرصي الرحى.
إنني أرى في عقل «البليهي» رصاصة انطلقت من عصر التنوير في القرن الثامن عشر فسقطت في الصحراء العربية في القرن الواحد والعشرين.
كما يفتخر المصريون بزكي نجيب محمود، وكما يفتخر العراقيون بعلي الوردي، وكما يفتخر السوريون بأدونيس، وكما يفتخر المغربيون بمحمد عابد الجابري، وكما يفتخر الجزائريون بمالك بن نبي، فإنه يحق لنا كسعوديين أن نفخر بالمفكر المبدع إبراهيم البليهي.
لو ظهر «البليهي» قبل خمسين أو سبعين أو تسعين عام إبان عصر الانبعاث والتوهج الثقافي العربي لقيل أن المناخ العام حينئذٍ كان مشجعًا على الإبداع في جميع المجالات الفكرية والأدبية والفنية، أما أن يظهر هذا المفكر الاستثنائي كنبتة غريبة في عصر التصحر الفكري الذي يعيشه عالمنا العربي وهو في حالة استلاب ثقافي عنوانها العولمة وحقيقتها التبعية فإن هذه ظاهرة يجب الوقوف عندها طويلا.
في المجتمعات الأخرى وعلى مر العصور يكون للفيلسوف أتباع ومريدون، إلا «البليهي» الذي ضحى بالدنيا وملذاتها متنعمًا برهبانية التفكير العميق والقراءة الحرة غير المؤدلجة، حيث لم يزل يقبع وحيدًا في صومعة لا يُسمع فيها إلا حفيف الأوراق وصرصرة الأقلام كراهب متبتل متسربلًا بقلنسوة العقل ومستعيذاً بالله من شيطان الجهل وآفة التخلف.
حقًا إن «البليهي» أيقونة العقل المتوهج وقيثارة الفكر العربي، وأحد رواد التنوير المتألقين في العصر الحديث.