منتدى الثلاثاء.. نافذة لتجديد هواء الثقافة

798

الأستاذ ميرزا الخويلدي

لم تكن المنتديات الثقافية ولا الصالونات الأدبية جديدة في بلادنا ولا في العالم العربي عرفها الشعراء والأدباء وأهل الرأي والقلم قديما مثلما عرفها المثقفون وأصحاب الفكر والإبداع، إذ كانت في الغالب تعبيرا عن شعبية العمل الثقافي والأدبي وعفويته حيث ينمو ويترعرع في رحم المجتمع كمنتج يعبر عن مكانه وزمانه. كانت تمثل حاجة لأصحاب الصنف الأدبي لكي تنمو مواهبهم وتصقل تجاربهم فتضيف لبعضهم تجارب مستحدثة، لكنها في مجتمعنا الذي نشأ على التواصل مع ثقافات العالم وحضارات الشعوب، وتشكلت هويته على الانفتاح والتقارب كانت أكثر من مجرد حاجة أو حاضنة للمبدعين، فقد كانت تمثل الحاجة إلى التعبير والحاجة إلى التواصل، الحاجة إلى أن يقرأ المثقفون تجارب بعضهم وينفتح على تجارب الآخرين، والرغبة في أن تتحول المنتديات وسيلة لكسر العزلة، وأن تكون جسورا للتواصل والتحاور.

وقد كشف هذا الشغف بالتواصل جانبا من الثراء الأدبي والفكري الذي تتمتع به هذه المنطقة. التفت نخبة الأدب في القطيف لترحب بزيارة الدكتورة عائشة عبد الرحمن ”بنت الشاطئ“ في زيارتها إلى القطيف في فبراير ألف وتسعمائة وواحد وخمسين، وسمحت تلك الزيارة وما كتب بعدها لنا للاطلاع على حجم النشاط الأدبي والثقافي آنذاك، وحجم الشغف بالتواصل مع حواضر الأدب في العالم العربي، وعلى وعي النخبة القطيفية وسعة إدراكها وحجم متابعتها الدقيقة للمساجلات والمطاردات الأدبية بين عمالقة الأدب العربي في مصر.

في ذلك اللقاء أبلغ أمين الخولي – زوج بنت الشاطئ – الأدباء القطيفيين أنه جاء إلى بلدهم يبحث عن كتاب ”الشافي“ للشريف الرضي، فقام كل من المرحوم محمد سعيد المسلم ومحمد سعيد الخنيزي بتأمين نسختين له من الكتاب. وقد عبرت بنت الشاطئ بعد عودتها إلى مصر عن انبهارها من مستوى النخبة الأدبية في القطيف، وكتبت مقالا بعنوان ”من بعيد“ نشرته في مجلة ”الكتاب“ ثم أعادت نشره ضمن كتابها ”أرض المعجزات“، قالت في مطلع المقال: ”أكتب هذا وما آل من أسمعي أصداء آتية من بعيد، أصداء قوية لسمر أدبي حافل، ملأ إحدى أمسياتنا في شرق الجزيرة، حين اجتمعنا بإخواننا من علماء القطيف وأدبائها على ساحل الخليج العربي“، ثم تقول ”كم تألمت وأنا أصغي إلى حديث أدباء القطيف عن معاركنا النقدية ومذاهبنا الفنية، وكم خجلت وأنا أرى في أيديهم كتبنا ومجلاتنا، ونحن الذين لا نشعر بهم أو نلقي لهم بالا، كم تأثرت وأنا أسمع الشاعر عبد الرسول الجشي يعرفنا ببلده الذي هو قطعة من بلدان الشرق العربي“. واستشهدت بأبيات من قصيدة المرحوم عبد الله الجشي، وما يصلح الحديث عنه بالنسبة للقطيف يصلح كذلك بالنسبة للأحساء حاضنة الأدب والعلم والشعراء، ويصلح كذلك على بقية أرجاء بلدنا.

يطوي منتدى الثلاثاء موسمه العشرين متألقا في عنفوان الشباب، زاهيا بعطائه في خدمة العلم والفكر والأدب والمجتمع، مخلصا لرسالته الأولى يوم أخذ على عاتقه أن يصبح ملتقى للحوار الحر والبناء، وحاضنة للإبداع وراعيا للفكر المستنير، وجسرا للتواصل بين بين الأطياف المتنوعة. تأسس المنتدى على فكرة التواصل ومد الجسور، واحتضان التنوع ورعاية الاختلاف، وتوفير منصة لأصحاب الرأي – مهما تعددت مشاربهم – أن يجهروا بآرائهم في فضاء حر وخلاق وإرساء قيم التحاور وقبول الرأي الآخر. وتجنب هذا المنتدى أن يكون صدى لصوت أصحابه ومحبيه، وأن يكرس عزلة المجتمع والمثقفين خاصة عبر الانغلاق على مشارب ومذاهب فكرية أو فلسفية، وتجنب أن ينحاز لسوى الإبداع وقيم الحوار والحرية وأن يصبح مكانا ملهما لكل المبدعين على اختلاف مشاربهم وأهوائهم.

يلتقي في فنائه المفكرون والشعراء والفنانون والموسيقيون، وأهل الأصالة والحداثة، وأصحاب الوظائف الرسمية وممثلو المجتمع المدني، وكلهم يعبرون عن آرائهم وأفكارهم ويتحاورون فيما بينهم، مع الحرص على تشجيع النقد الاجتماعي والفني والأدبي رغبة في أن ينتج الحوار فهما أكبر ووعيا أكثر رسوخا. لقد تبنى منتدى الثلاثاء خطاب الاعتدال والتسامح والتعايش، وإشاعة روح المسؤولية وتعزيز المواطنة الصالحة، وبناء الشراكة الوطنية ونبذ التعصب والتصدي لخطاب التحريض، كما تبنى خطابا يرسخ الانتماء الوطني ويسعى لتوطيد روح الأخوة والإخاء والتعاون بين الناس على مختلف توجهاتهم، وآمن المنتدى بأننا جزء من وطن واسع وكبير ولا بد لأبنائه أن يمدوا أيديهم إلى بعض لتعزيز التلاحم فيما بينهم وإزالة كل أسباب الفرقة وسوء الفهم.

لقد ساهم المنتدى – كما غيره من المنتديات الأهلية – في ترسيخ الوعي وخلق حراك ثقافي يشارك بإيجابية في تطور المجتمع نحو الأفضل. وأكدت هذه المنتديات أنها نوافذ لتجديد هواء الثقافة في المملكة، تصب في مصلحة الوطن والمواطن وتعمل على رفده بالثقافة، مثلما يقول رائد آخر من رواد المنتديات الأهلية هو الشيخ عبد المقصود خوجة.

وحاز المنتدى خلال مسيرته على تكريم من وزارة الثقافة والإعلام في معرض الرياض الدولي للكتاب عام ألفين وعشرة، كما تضمن تكريم الرواد من أصحاب المنتديات الثقافية الذين يسعون في نشاط الحراك الثقافي ويسهمون في نشاط الحراك الثقافي في المجتمع، ومن بينهم الأستاذ جعفر الشايب والدكتور راشد المبارك رحمه الله والشيخ عبد المقصود خوجة، كما حظي المنتدى برعاية واستقبال أمير المنطقة الشرقية.

لقد كان أحد أبرز نجاحات المنتدى إشراك المرأة في فعالياته حضورا وإلقاء منذ العام الفين واحد عشر، وتكريم الشخصيات النسائية مؤكدا أن مشاركة المرأة يمكنها أن تنتج وعيا جديدا قائما على التصالح مع الذات ومع العالم والقبول بفكر منفتح ومتعدد، في حين أن غياب المرأة خلى بالتكوين الثقافي وأفقد المجتمع صورته الطبيعية. وعلى الصعيد الثقافي أصبحت كل منتجاتنا الفكرية التي تغيب عنها المرأة ناقصة وقاصرة، فكلما تمادى المجتمع في إقصاء المرأة واحتقار دورها ومكانتها خاصة أكثر في التطرف والتحجر والتزمت الفكري. كما كان الشباب قطب الرحى في برامج المنتدى التي تنوعت مشاربها لتحدث حراكا ثقافيا يطرح الأسئلة ويستدعي النقاش، كذلك احتضن المنتدى التنوع في برامجه بين الفكري والأدبي والاقتصادي والثقافي والفني وحظيت الرياضة والمسرح والفنون البصرية بمكانة بارزة في هذا المنتدى من أجل تقديم برامج برنامج تقدمي إبداعي يعبر عن نبض الحياة.

وبالمناسبة ذاتها لا بد من الحديث عن راعي هذا المنتدى الأستاذ جعفر الشايب، الرجل الذي حمل على عاتقه قيمة هذا المنتدى مثلما حمل أعباء تنظيمه ورعايته ومتابعة برامجه ونشر أفكاره عبر وسائل التواصل، فقد جاء المنتدى على صورة راعيه فهو الآخر عميق الإيمان بقيم الحوار والتواصل وشديد التمسك باحترام المختلف والسعي اليه والمبادرة نحوه. الأستاذ الشايب ابن جزيرة تاروت الذي أخذ من البحر صفائه ونقائه وسخائه واتساعه وانفتاحه، هو الآخر نموذج رائع لرجل جمع القلوب حوله متسلحا بالحب والوفاء للجميع.

رابط الخبر اضغط هنا

 

قد يعجبك أيضاً

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق أقرأ المزيد