بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد.
لعل من السهل على كل منتم لهذه المنطقة، بل لكل متابع لحركة سماحة العم – العلامة الحجة السيد علي ابن المرجع الديني السيد ناصر السلمان حفظه الله تعالى وأطال في عمره الشريف – أن يتحدث بإسهاب عن حضوره على الصعيدين العلمي والديني؛ وذلك لما لهما من بروز وامتداد ظاهر للعيان، ولكن الحديث من مثلي عنه ليس بالأمر اليسير؛ وذلك لطبيعة العلاقة الرحمية ووشائجها التي تربطني بسماحته، الأمر الذي يجعلني في موقف لا يخلو من صعوبة تستوجب ضرورة الدقة والعناية والموضوعية؛ لأني إن وفيته حقه بما يستحق قد ينسب حديثي عنه للمبالغة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن قصرت في الحديث عنه فهنا حتما سأكون مجافيا للحقيقة والواقع، ولكن لعل المنجزات التي أثمرت عنه تجربته عبر عمره المديد بالعطاء خير شافع لي في أخذ الفرصة بما يتيح لي إياها الوقت على قصره الذي اسقط عني الوفاء بتمام حقه؛ لانتفاء القدرة التي هي شرط من شروط تنجيز التكليف، ولهذا أتقدم لسماحة العم وإليكم بالاعتذار عن اختصار فيما سأتحدث فيه عن سماحته، وذلك لتداعيات تلك الصعوبة.
وعلى كل حال يمكننا على سبيل الإجمال اعتبار البعد العلمي والدور الديني في مسيرة سماحة العم وجهين لعملة واحدة:
أحدهما: «المجال العلمي النظري»، والآخر «المجال العلمي العملي».
وما يهمنا في هذا الصدد ونحن نستحضر مسيرة شخصية امتلكت مقومات التمييز العلمي والإبداع العملي أن نتساءل: ماذا يمكن أن نستوحي من هذين البعيدين؟ حيث هو الهدف من استحضار سيرة العظماء.
ولتسليط الضوء على هذين الجانبين لا بد أن نستعرض شيئا قليلا من مسيرته للوقوف على حقيقة ذلك في البعدين المذكورين بما يلي:
الجانب الأول: المجال العلمي.
يلاحظ في سيرته المباركة أنه منذ البداية كانت له خيارات متميزة لبناء شخصيته الفكرية، وذلك باختياره أن يكون من علماء الأمة لا من جهالها؛ ليرتفع بذلك درجة عند الله حيث يقول عز وجل: «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات».
كما اختار من أجل تحصيل هذه الفضيلة الجمع بين منهج التحصيل العلمي الموروث التقليدي الذي سارت عليه الحوزات منذ قرون عديدة، ومنهج الدراسة النظامية الحديثة؛ استجابة منه لمعطيات الواقع آنذاك.
فبالإضافة إلى حضوره دروس الفضلاء في حلقاتهم الموزعة في أروقتها العامة ألتحق بركب الدراسة النظامية في جمعية منتدى النشر؛ ليتخرج منها بدرجة البكالوريوس في مجال اللغة العربية والفقه، وذلك بغية التوسع في المعارف، وضرورة التجديد ومواكبة احتياجات المجتمع لرفع حالة الوعي والثقافة آنذاك.
وقد لا يكون هذا الجمع ملفتاً حتى يدعى بالتمييز إذا ما تم لحاظ عدد المتخرجين آنذاك من عدة دول إسلامية، ولكن بالمقارنة مع أقرانه من طلاب العلم من الأحساء والقطيف والبحرين الذين يرون ضرورة المحافظة على الطريقة الموروثة، والاقتصار عليها في تحصيل الفضيلة العلمية، الأمر الذي جعل الانتساب إلى تلك الكليات الشرعية الحديثة لا يحظى به إلا القليل من طلاب الخليج.
من هنا ندرك عمق هذه الخطوة نحو تحقيق التمييز، وهذه الروحية التواقة للتجديد التي لازمته وظلت تتوهج بين جوانبه أثناء إقامته في النجف الأشرف، ومن آثارها أن كانت خياراته في مرحلة دراساته العليا في مراحل البحث الخارج هو البحث عن عمالقة البحث الفقهي والأصولي، ويظهر ذلك جليا من خلال حضوره بحث السيدِ محسن الحكيم «قدس» المعروف بالذوق والدقة الفقهية وحضور بحث السيدِ الخوئي «قدس» المعروف بالعمق الأصولي وأخيرا اختار العمق والتجديد والإبداع من خلال حضوره دروس فقيد العلم والتجديد الشهيد السيدِ محمد باقر الصدر رضوان الله عليه.
وكما كان خياره المتميز في التلقي وحضور مجالس الأعلام في زمانه، كان له أيضا جانب التميز في التدريس وتربية طلاب العلم آنذاك، وقد ظهر ذلك جليا في مستوى دروسه التي كان يلقيها آنذاك، وما عرف به من قدرة علمية في استحضار المطالب العلمية، ودقة في صياغتها، وبيان مؤثر في إلقائها، حتى لقد كان موضع اختيار النخبة من طلاب العلم لحضور درسه الشريف في حلقات الدروس الحوزوية التقليدية، من جهة، ومن جهة أخرى تم انتخابه مدرساً في كلية الفقه التي تخرج فيها، وكذا دار الحكمة وأصبح من الأساتذة الذين لهم التميز ليس على مستوى الجالية الأحسائية بل امتدت إلى طلاب دول الخليج والعراق ولبنان وقد أصبح بحمد الله العديد منهم أصحاب مراتب علمية يشار لهم بالبنان.
وبنفس هذه الروح.. التواقة للعلم والتجديد انتقل بها إلى مسقط رأسه الأحساء، وكله طموح في أن ينقل تجاربه ومعارفه، وأن يجسد رؤاه وما يتلطع إليه على أرض الواقع، وذلك من خلال تنشيط مسار الحوزة العلمية بالأحساء في مرحلتها الرابعة من عمرها الشريف، الأولى في تأسيس الجد السيد هاشم السلمان «ت 1309 ه»، والمرحلة الثانية بدور الجد السيد ناصر السلمان «ت 1357 ه»، والثالثة بدور من السيد محمد السيد علي الحسن والرابعة قام بدور مشترك مع السيد محمد علي العلي السلمان مطلع هذا القرن تقريبا 1404 هـ ولكن ببصمة خاصة من العم السيد علي.
وبصمته الخاصة تتسم في أنه لما وجد من إقبال الطلاب وزيادة أعدادهم وزيادة عدد حلقات الدرس وتنوع الدروس فيها، تَوَّجَ هذه المرحلة في عام 1413 بإضافة نوعية، قام خلالها برسم روية حديثة لمستقبل الحوزة العلمية بالأحساء، وبشكل متناغم مع معطيات الواقع وطبيعة المرحلة، وهو أن تكون الحوزة تحت مظلة نظام يراعى فيها سير الدراسة كغيرها من المؤسسات العلمية، من ضبط لإيقاعها على عدة عناصر أساسية للدروس النظامية:
1 – الأستاذ.
2 – الطالب.
3 – الكتاب.
4 – المكان.
5 – الزمان.
6 – تقييم الطالب والأستاذ، وذلك عبر قياس تحصيل الطلاب أنفسهم من خلال اختبارات دورية، بموجبها يتحدد إمكانية استمرار الطالب في الدراسة وانتقاله إلى الصفوف التي تليها، بل ويكرم المتفوقين منه ويجعل منهم أساتذة مع استيفاء بعض الضوابط الأخرى من القابليات الأخرى.
وأن تتنوع الدروس التي يدرسها الطالب لتشمل الدروس الأساسية في الحوزات العلمية مع مراعاة الأخذ بمستواها وعمق تأصيلها كما هي في حلقات الدروس التقليدية، والانفتاح على ما أفرزه واقع النمو والتطور في المقررات الدراسية وأحدث النظريات العلمية في مجال الفقه والأصول في الحوزات أيضا، مضافا إليها بعض الدروس الحديثة في التخصصات العلمية الأخرى ذات الصلة بواقع التخصص العلمي الشرعي، وفيما يلي قائمة بالعلوم التي تدرس في الحوزة العلمية بالأحساء مع حفظ مراحل التدرج في تلقيها وفقا لمراحل نمو معارف الطالب وطبيعة التخصصات العلمية فيها، ولكن بشكل إجمالي هي:
– علم المنطق.
– علوم اللغة العربية والأدبية.
– علوم القرآن والتفسير.
– علم الكلام.
– علم الفلسفة.
– علم أصول الفقه.
– علم الفقه.
– علم الرجال والدراية.
– المسائل الفقهية المعاصرة.
– علم الاقتصاد.
– علم التاريخ.
– علم الفقه المقارن.
– علم الأديان.
– علم الأخلاق.
وقد كان هذا الطرح آنذاك جديدا على واقع الدراسة الحوزوية في الأحساء، بل وحتى مجالس الدرس في القطيف والبحرين، وقد وضع لها أطرا وضوابط وتم تفعيلها من قبل مجلس علمي أعلى يرأسه سماحته، وبعضوية نخبة من أصحاب الفضيلة والسماحة، وها هي بحمد الله تجربة ماثلة للعيان تدخل عقدها الرابع وقد اشتد قوامها حينما انتقلت الحوزة إلى مقرها الجديد عام 1425 هـ، الذي قام سماحة العم بتشييده على أرض بلغت مساحتها 3500 متر وهو مقر توفرت فيه جميع ما يلزم لنجاح خطوة التجديد والإبداع في تقديم الخدمات العلمية الحديثة في مجال تدريس العلوم الشرعية: من قاعات دراسية، ومكاتب إدارية، ومكتبة عامة، وغرف سكنية، ومرافق عامة، مضافا إلى الدعم المالي المستمر للطلاب والمعلمين، حيث يتكفل سماحته بأكثر من نصف الميزانية السنوية التي تتجاوز ستة ملايين سنويا.
وقد تمخض هذا الواقع وهذه التجهيزات عن العديد من الإنجازات التطورية في المجال العلمي، منها ما يلي:
1 – تقنين المراحل الدراسية وتقسيمها إلى مرحلتين كل مرحلة خمس سنوات.
2 – إضافة دروس البحث الخارج في الفقه والأصول والتي بلغت ثمان دروس أربعة في الفقه وأربعة في الأصول يحضرها أكثر من 90 طالب.
أ – إضافة تخصصات علمية جديدة تم إنجاز اثنين منها هما: أ – تخصص العقائد والفلسفة، ب – تخصص التفسير وعلوم القرآن.
واثنان تحت الإعداد: أ – تخصص الحديث والرجال، ب – تخصص الخطابة والسيرة
3 – كتابة مناهج دراسية جديدة لمؤلفين من فضلاء الحوزة منها ما يلي:
أ – أسس التفسير – للشيخ عبدالجليل المكراني.
ب – المدارس التفسيرية – للشيخ إسماعيل الهفوفي.
ت – قواعد مهمة في علم الكلام – للشيخ حيدر السندي.
ث – علم النفس الفلسفي – للشيخ أحمد الدهنين.
4 – تأسيس إدارة البحث العلمي وتحقيق التراث بأشراف: د. الشيخ محمد الخرس، يقوم على تدريب الطلاب بمهارات كتابة البحوث العلمية وكيفية التحقيق العلمي، وقد نتجت هذه التجربة عن صدور 42 بحثا و10 تحقيقات، وقد تم نشره هذه البحوث عبر نشرة علمية فصلية محكمة صادرة من الحوزة العلمية بالأحساء موسومة ب «ريادة للدراسات الإسلامية» صدر منها 7 مجلدات نشر فيها 26 بحثا من بحوث طلاب الحوزة.
5 – تقديم دورات تدريبية في تنمية مهارات ومعارف طلاب الحوزة العلمية بالأحساء بلغت 25 دورة في مختلف المجالات البحثية والتحقيقية والأسرية والقانونية والاجتماعية والإعلامية والخطابية.
6 – تأسيس بنك معلوماتي إلكتروني يحتوي على أكثر من 10 آلاف سؤال في جميع المواد الدراسية.
7 – اعتماد الامتحان والتصحيح الإلكتروني.
8 – تأسيس مركز دراسات للصم والبكم الذي التحق به أكثر من 200 طالب وطالبة.
ومؤخرا قام العم بتأسيس حوزة علمية في مدينة الدمام تحمل نفس التوجهات الإبداعية والتجديدية
وهذا ما يعكس واقع التجربة المتميزة الإبداعية في البعد العلمي.
الجانب الثاني: المجال العملي.
هو اختياره لسكنى الدمام بدلا من الأحساء، وهذا في حد ذاته قرار ليس باليسير، فقد جمع على غربة تحصيله غربة جديدة عن مسقط رأسه الأحساء، وذلك لما وجده من حاجة المؤمنين في الدمام إلى من يرعى احتياجاتهم الشرعية والروحية، عليه قرر الرحيل إلى الدمام ليحتضه مجتمع مؤمن كان يتردد عليه بعض الفضلاء، ولكن لم تسنح الفرصة لأحد منهم أن يقيم بينهم، ووفقا لهذا كانوا بأمس الحاجة إلى عالم، عارف بأهل زمانه، مستحضر للمسائل الشرعية، متجدد المعارف، صاحب رأي راجح، مأمون في الاستشارات العرفية والاجتماعية، قوي الشخصية، متكامل الجوانب في الجوانب العلمية والخلقية كمثل سماحته، فما كان منه إلا أن قام بدور قيادي فعال لمساندة ودعم ولادة هذا المجتمع الإيماني، كما تمخضت إقامته في مجتمع الدمام أن تم تأسيس أكبر جامع لاتباع أهل البيت في المملكة إن لم يكن في الخليج بأسره، وكذلك قام بفتح داره يوميا طوال العام للمؤمنين؛ للإجابة على مسائلهم، والنظر في حوائجهم، وأيضا إجراء عقود الأنكحة، والمصالحات المالية الشرعية، وأيضا له الدور البارز في تثبيت دعائم الإيمان والمعرفة الدينية، وتشييد معاني الولاء لمحمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين من خلال إقامة مناسباتهم، ولكن هذا الأمر لم يكن إلا من خلال تقديم تضحيتين كبيرتين:
التضحية الأولى: وتتمثل في الرجوع إلى البلاد وهجرته مركز العلم وانقطاعه عن مواصلة التحصيل الحوزوي الذي بحسب المعطيات النفسية والذهنية لو قدر بقائه لبلغ ما بلغ بعض أقرانه من ذوي الفضيلة العلمية كالسيد الحائري والسيد الهاشمي وغيرهما ولكن الوظيفة الشرعية التي قامت على مراعاة الأولويات في المهام في تشخيصه وكذلك تكليف المرجعية بضرورة وجود رجل عالم مثله دفعه إلى أن يهاجر عن موطن العلم
التضحية الثانية: وتتمثل في تركه لموطن أجداده وآبائه الأحساء وقبوله للإقامة في بلد ناشئ جديد يحتم عليه أن يبذل قصارى جهده في تأسيسه وفي تقديم الخدمات له وكذلك أن يتحمل جهده منفردا حيث لم يكن يوجد أحد سواه آنذاك.
ولو قدر له أن اختار الأحساء؛ لكانت أكثر سهولة له، وأكثر يسرا؛ لوجود العديد من الأقران من العلماء الذين يخففون عنه أعباء تلك المرحلة.
وفي الختام
كما أجملنا العرض والوقوف على جنبات سيرته الحافلة بالتميز في التلقي والتميز في العطاء، أيضا يمكن الإجمال في الوقوف على مفاداتها والدروس المستفادة منها ولعلها أبرزها هو ضرورة العناية بالتميز والإبداع في تحصيل الفضيلة العلمية الشرعية.
وكذا معنى قيمة التضحية والكفاح في الجانب العملي بعد تحصيل الفضيلة العلمية، ودورها الإيجابي على طبيعة النتائج، وجمال مكتسباتها.
نعم هذه شذرات من سيرة سماحته العلمية والعملية وهي بحق جديرة بالدراسة والتحليل واتخاذها نموذجا ومنهجا يقتدي بها العلماء والمرشدون.
وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يحفظ سيدنا العم المعظم وأن يطيل عمره الشريف، وأن يسبغ عليه نعمة الصحة والعافية وأن ينفعنا به وبجميع العلماء، كما أسأل الله أن يحفظهم من كل سوء وبلاء.