سيرة سماحة العلامة الأستاذ السيد علي السيد ناصر السلمان حفظه الله، تمثل تجربة ثرية في مجال القيادة الدينية الاجتماعية، ولست مبالغًا إن قلت إنها من أثرى التجارب المعاصرة خاصة على مستوى مجتمعاتنا في المنطقة.
وهذا ما يدعو إلى قراءة هذه التجربة، وفحصها لتكون أنموذجًا يقتدى، وتستلهم منه الدروس والعبر للجيل الحاضر والأجيال اللاحقة.
وسأتحدث هنا عن بعض معالم المنهج في هذه التجربة القيادية الثرية:
أولا: نهج الوعي والتجديد
هناك خطان بارزان يتقاسمان ساحتنا الدينية، الخط التقليدي المحافظ الذي يعيش همّ القلق على الهوية الدينية، ويخشى من تأثير أي تطور وتجديد على ثباتها واستدامتها، لذلك يتحفظ على أي نقد للتراث، وأي نقاش في الأفكار السائدة، أو تغيير في أساليب العمل الديني المتوارثة عن الأسلاف.
وهو ما عبر عنه الشهيد السيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم المحنة بالنزعة الاستصحابية اشتقاقًا من قاعدة الاستصحاب في علم الأصول، حيث يقول: «هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائما نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، وحدثت أمة أخرى ذات أفكار واتجاهات وظروف وملابسات أخرى، فحينئذ من الطبيعي ألا نُوفق في العمل لأننا نتعامل مع أمة ماتت، والأمة الحية لا نتعامل معها» [كتاب المحنة، ص57].
والخط الآخر هو خط الإصلاح والتجديد الذي يعيش همّ الاستجابة للتحديات المعاصرة التي فرضتها تطورات الحياة وتقدم العلم، وأثارت أسئلة جديدة في الفكر والمعرفة وإدارة الحياة الاجتماعية، وذلك يوجب تجديد البحث والاجتهاد بضوابطه في الفكر والفقه، كما اجتهد العلماء السابقون ضمن مستوى المعرفة، وظروف البيئة في أزمنتهم.
إننا ملزمون بالثبات على مبادئ الدين وقيمه، والرجوع إلى نصوصه الثابتة، أما فهم الأسلاف وقراءتهم، وأساليب تطبيقهم للقيم والمفاهيم والأحكام، فهو ساحة للاجتهاد، وإنما فتح باب الاجتهاد لذلك.
ومن الواضح أن سماحة السيد السلمان ينتمي إلى هذا الخط الإصلاحي ذي الرؤية الواعية للدين، والمنفتحة على تطورات العصر والحياة.
فإلى جانب دراسته الحوزوية التقليدية التحق بكلية الفقه في النجف الأشرف، التي اعتمدت منهج الدراسة الأكاديمية للعلوم الدينية، ولم تقتصر على الدروس المتعارفة في الحوزة، وتخرج منها بدرجة بكالوريوس في الفلسفة عام 1963م.
لقد تتلمذ على أيدي رواد الإصلاح والتجديد في الساحة العلمية الدينية، كالشيخ محمد رضا المظفر، والسيد محمد تقي الحكيم، والدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي، والشيخ عز الدين الجزائري.
وقد تحدث حفظه الله بشيء من التفصيل عن انحيازه للتيار الواعي، وتحفظه على طريقة التيار التقليدي المحافظ، ومعاناته من بعض جهاته، في حوار معه نشر في الكتاب الذي أصدرته موسوعة الموسم عن حياته وسيرته عام 2014م.
ويكشف خطابه الديني عن هذه النزعة الإصلاحية، فهو يرفض اتجاه الغلو، ويتحفظ على المبالغة في القضايا الشعائرية، وهو الداعم الأساس لاتجاه التطوير في الحوزة العلمية المباركة في الأحساء، وهو الرائد الأول لتطوير حملات الحج في المنطقة، حيث رعى تأسيس حملة العدل التعاونية المتميزة في برامجها الإرشادية التربوية، وبادر إلى إقامة أول صلاة جمعة في المنطقة، وكانت لا تقام إلا في مدينة سيهات.
كما رعى تطويرًا للمجلس الحسيني في الدمام ليالي عاشوراء، حيث يفتتح سماحته الموسم بكلمة، ويختمه كذلك، وأضاف إلى برنامج القراءة الحسينية محاضرة يلقيها كل ليلة أحد المشايخ أو الأكاديميين أو الناشطين الاجتماعيين.
ومن تجليات إيمانه بخط الوعي، وإخلاصه لمسيرته، إشادته واحتفاؤه برموز هذا الخط، وكسره طوق الحصار عليهم والتجاهل لشخصياتهم، بالتواصل معهم وإبداء الاحترام والتقدير لجهودهم، وعدم الرضا عن الإساءة إليهم، وإذا ما التحق أحد رموزهم بالرفيق الأعلى يبادر لتأبينه وإقامة العزاء لفقده، رغم أن ذلك قد يثير عليه تحفظات بعض الجهات الدينية.
ثانيًا: بين القيادة للجمهور والانقياد له
المهمة الأساس لعالم الدين إرشاد الناس وتوجيههم لما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، فإذا ما اتضحت له الرؤية الشرعية، وتشخّص لديه الموقف المطلوب، فإن عليه القيام بوظيفته في إرشاد الناس إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
لكن ما يحدث في الساحة الدينية بعض الأحيان، تنازل عالم الدين عن دور القيادة إلى دور الانقياد، استجابة لعادات سائدة، أو عواطف ثائرة، وحماس متأجج، ليكسب رضا الجمهور، على حساب المصالح الأساسية للدين والمجتمع.
هنا يحتاج عالم الدين إلى عمق الإخلاص لله واستهداف رضاه، وإلى قوة الشخصية والثقة بالنفس، والاستعداد لدفع الثمن من مكانته الاجتماعية من أجل اتخاذ الموقف الصحيح. وقد ورد عن أمير المؤمنين علي : أنه قال: «مَا أَعْظَمَ وِزْرَ مَنْ طَلَبَ رِضَا اَلْمَخْلُوقِينَ بِسَخَطِ اَلْخَالِقِ». [غرر الحكم، ص689].
وقد اعتمد سماحة السيد السلمان هذه المنهجية في ممارسته لدوره الديني القيادي، فهو يسعى للارتقاء بمستوى جمهوره بإثارة الوعي، وترشيد العواطف، وكبح الانفعالات، وترويض حالات الحماس والانفعال، حفاظًا على نقاء الدين، وحماية لمصلحة المجتمع.
كان يدعو من حوله للصبر والتحمل، ومعالجة المشكلات بالمتابعة والسعي عبر الطرق المناسبة، ويحذّر من عواقب الاندفاعات الطائشة، ومواقفه تجاه ممارسات العنف والإرهاب في المنطقة جلية واضحة، وهي محل إشادة وتقدير وطني عام. فالأمن والاستقرار أولوية لا يزاحمها أي شيء آخر في منهج السيد السلمان.
ثالثًا: الانفتاح والوحدة الوطنية
مدرسة الوعي التي انطلق منها السيد السلمان، والبيئة الأحسائية المتسامحة التي تربى فيها، قادته لاختيار نهج الانفتاح والوحدة على الصعيد الوطني، ورغم أنه قد واجه ظروفًا صعبة في قيامه بمهماته الدينية، حينما استقر في الدمام، بسبب تحريض التيارات الطائفية التي عصفت بالمنطقة والوطن في عقود سابقة، إلا أنه اعتصم بالوعي والحكمة لم تستدرجه معارك الصراع الطائفي، ولم تدفعه تلك الظروف إلى الانكفاء والانغلاق على الذات، ولا للتشنج والانفعال والصدام، بل ظل داعية للوحدة والتقارب والوئام، يذكّر جمهوره بسيرة أهل البيت ، وتعاليمهم لاتباعهم بحسن المجاورة والمعاشرة والمصاحبة، وكان سماحته مهتمًا بالتواصل مع إمارة المنطقة ومسؤولي الدولة تعزيزًا للولاء الوطني، وتأكيدًا على نهج الانفتاح والوحدة.
ويجب عليّ أن أقول إني استفدت كثيرًا من دعمه وتشجيعه للانخراط في هذا النهج، والاستمرار في مبادرات الانفتاح والحوار، حيث كنت أستشيره وأستنير برأيه في مختلف المواقف والمبادرات، فكان يبارك أي مبادرة إيجابية، ويتفاعل معها، كذهاب الوفود للقاء قيادات الدولة وزيارة المسؤولين، وكتابة الرسائل والعرائض.
وضمن مساعي الانفتاح والتقارب استضفتُ بعض العلماء والشخصيات من مناطق الوطن المختلفة، فكان سماحته داعمًا ومشجعًا لمثل هذه المبادرات، وغالبًا ما كان يتفضل بحضور تلك الاستضافات.
رابعًا: تنمية المجتمع
كان حجر الأساس في مشروعه الديني الاجتماعي، تنمية الحالة الإيمانية في المجتمع، بترسيخ القناعات الفكرية العقدية، وإقامة الشعائر الدينية، ونشر الأخلاق الفاضلة، وهذا ما كان يسهم في تحقيقه سائر العلماء والخطباء بنسب متفاوتة، لكن ما ميّز دور السيد السلمان على أقرانه ومجايليه من العلماء اهتمامه بالتنمية الاجتماعية الواسعة، فقد كان مهتمًا بتشجيع الحالة التعليمية والحركة الاقتصادية، والنشاط الثقافي والأدبي، وكان يدعو لمأسسة العمل الخيري الأهلي، ويدعم المؤسسات الاجتماعية المختلفة، كرعايته لإنشاء مجلس العوائل والأسر في الدمام.
كان حضوره الاجتماعي، ومباركته لمختلف المبادرات، ودعمه للأنشطة المتنوعة، وتشجيعه للكفاءات والطاقات، مصدر إلهام ورعاية لتقدم المجتمع وارتقائه.
ويأتي تبنيه لإنشاء مركز الفحص الشامل والمركز الصحي في المجيدية في سياق اهتمامه بالتنمية الشاملة، وتحفيزًا للمشاركة الاجتماعية.
إنه منفتح على الجميع، ولا يرى اختلاف الآراء والأفكار سببًا للقطيعة والخصام، بل يحترم كل أبناء مجتمعه ووطنه، ويتفهم تنوع خيارات الناس وتوجهاتهم، وأن وظيفة العالم الديني هي التذكير والإرشاد، وليس الوصاية والسيطرة التي لم يمنحها الله حتى لنبيه العظيم ﷺ، حيث خاطبه تعالى بقوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿21﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ «22»﴾ [سورة الغاشية].
حقًا إن وجوده نعمة كبيرة علينا في هذه المنطقة، وهو رمزٌ وعلم ومنار للوطن كله، حفظ الله سيدنا العلامة الأستاذ وأطال في عمره، ومتعه بالصحة والعافية، وحفظ جميع علمائنا الأعلام وحفظكم جميعًا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.