في مساء الثلاثاء 6 ذو القعدة 1429هـ الموافق 4 نوفمبر 2008م، استضاف منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف الباحث الأستاذ محمد الحرز مستعرضا المرجعية الدينية المحلية عبر تاريخ المنطقة. وقد أدار الندوة الأستاذ عبد الباري الدخيل فعرف بالضيف، وهو من مواليد الأحساء، حاصل على بكالوريوس لغة عربية من جامعة الملك عبد العزيز بجدة. له اهتمام بالجانب الفكري والعلمي في منطقة الأحساء، وله في ذلك العديد من البحوث والكتب المنشورة؛ منها القضاء الشيعي في الأحساء، الوقف في الأحساء معالم وآفاق، ملامح من الحياة العلمية في الأحساء، علماء الأحساء ودورهم في بناء الوحدة الوطنية. وهو عضو أسرة تحرير مجلة الواحة الفصلية.
بدأ الضيف حديثه بالإشارة إلى مدى الصعوبات التي تواجه الباحث في بحثه عموما؛ كعدم توفر المصادر، وتضارب المعلومات الموجودة في المتوفر منها؛ مشيرا بذلك إلى ما واجهه شخصيا من هذه الصعوبات في بحثه عن تاريخ المنطقة. وأرجع هذه الصعوبات لعوامل عديدة، منها الانقطاع التاريخي منذ ما بعد عصر الأئمة وحتى القرن العاشر الهجري، قبل أن يباشـَر تدوينه بما لم يشبع نهم الباحث.
كذلك أشار لعامل آخر مثـّله في قصور ما كـُتب عن العلماء لتركيزه الحديث عن سيرة العالم العلمية، بعيدا عن دوره الاجتماعي الذي يغلب تناقله شفهيا عبر كبار السن الذين غالبا ما تخونهم الذاكرة. وأضاف توثيق الأخبار في صكوك يحتكرها أصحابها وعدم تفهم حاجة تبادلها مع الباحثين سببا آخر. وأشار الباحث أيضا إلى فردية الجهود في البحث والتوثيق، والتي لا يمكن مقارنة ناتجها بناتج البحث الجماعي، ليختم أسبابه بتصدير جزء كبير من تاريخنا ومؤلفات علمائنا المخطوطة إلى خارج الوطن، وعلى الأخص إيران والعراق، معللا ذلك لافتقار المنطقة لمركز يضمها.
بعد ذلك، انتقل الباحث للحديث عن أسباب نشوء المرجعية المحلية في المنطقة، ذكر منها الحاجة الطبيعية للمرجعية، وبعد المراكز الدينية – وكانت تتركز في إيران والعراق – في ظل عدم وجود وسائل اتصال، بالإضافة إلى توفر الأهلية العلمية في المنطقة، والتي جعلت من القطيف مركزا للعلوم الدينية حتى سميت بالنجف الصغرى، وجمعت قرية واحدة من الأحساء في فترة واحدة من المراجع ما بلغ أربعين مجتهدا والكثير من رواة الحديث الذين رووا بسلسلة متصلة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وعن الشخصيات المرجعية في الأحساء، ذكر المرجع الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي، المتوفى بعد سنة 901هـ وهو من كبار الفقهاء وعلماء الشيعة ومن مؤلفاته (عوالي اللآلئ) الذي يعتبر من مصادر الحديث المتميزة لدى الشيعة. كذلك المرجع الشيخ أحمد بن زيد الدين الأحسائي الذي انتشر صيته حتى أصبح له مقلدين من خارج منطقة الأحساء. وأضاف المحاضر أيضا المرجع الشيخ عبد المحسن اللويمي، وكان صاحب حوزة علمية إلا أنه هاجر من المنطقة إلى إيران بعد تأسيس الدولة السعودية الأولى، ليؤسس له حوزة هناك أجاز فيها الكثير من مراجع القطيف، وله اليوم في إيران ذرية ضخمة تعرف بآل محسني.
وواصل إيجاز سيَر مراجع أخرى، مشيرا إلى تسلسل هرمي برز فيه قطبان من أقطاب الفكر الديني، كالشيخ محمد بن حسين آل بو خمسين في الهفوف والسيد هاشم بن أحمد السلمان في المبرز، إلى أن توحدت المرجعية بالشيخ محمد بن عبد الله العيثان، وكان له مقلديه في العراق وإيران؛ لتنقسم مرة أخرى بموته إلى مرجعيتين لدى الشيخ موسى بو خمسين والسيد ناصر السلمان. وتحدث الضيف عن الأدوار التي قامت بها هذه المرجعيات إلى أن انتهى إلى خاتمة المراجع، الشيخ حبيب بن قرين المتوفى عام 1363هـ، وبموته انتهت المرجعية المحلية في الأحساء.
وأشار الباحث إلى عدم توفر تفاصيل وافية حول تاريخ المرجعيات في القطيف، بيد أنه ذكر أسماء كان لها حضورها البارز، كالشيخ حسين بن محمد بن جعفر الماحوزي البحراني، وكان له مكانة علمية كبرى في المنطقة في بداية القرن الرابع الهجري، كذلك الشيخ مبارك آل حميدان الجارودي الذي استمرت المرجعية في نسله قبل انتقالها لمنطقة صفوى. وبذات المنهج، أوجز الحرز سيَر العديد من أبرز المراجع في القطيف، كالشيخ محمد بن الشيخ عبد علي آل عبد الجبار، وله مؤلفات كثيرة مخطوطة، والشيخ حسن بن سلطان بن علي بن محمد بن خليفة الأحسائي، والشيخ عبد الله بن معتوق القطيفي التاروتي، والشيخ محمد بن نمر، والشيخ أبو الحسن الخنيزي، والسيد ماجد العوامي الذي يعتبر خاتمة المرجعيات التي انتهت بوفاته عام 1367هـ.
بعد ذلك، انتقل المحاضر للحديث عن أبعاد النشاط المرجعي الذي تضمن أهمها الإفتاء، ودعم مسيرة الحوزة العلمية، بناء مركزية دينية، الإصلاح الاجتماعي، كذلك مقاومة الغزو الفكري للشيعة، ومحاربة دعاة الطائفية، ثم القضاء المحلي الذي كان يطبق بسلاسة لثقة الناس فيه بمستوىً أقصى القضاء الرسمي المتمثل في الدولة العثمانية. ووضح بعض الأسباب التي شجعت على ذلك، كانتهاج المذهب الحنفي في جميع معاملات الدولة لجميع المذاهب الدينية، وعدم فرض دفع مقابل مادي لإصدار الحكم، كما كان الأمر مع الدولة العثمانية.
وفي أسباب انحسار المرجعيات تحدث الضيف عن سهولة الاتصال مع المراكز العلمية، وخوف بعض العلماء من التصدي لمتطلبات هذه المسؤولية، وأشار لأسباب الدكتور عبد الهادي الفضلي في ذلك، كمحاولة حصر الخمس وتوجيهه إلى مركزية بهدف تقوية المذهب. المداخلات تضمنت أسئلة للحضور صب جُلـُّها في موضوع آليات التصدي للمرجعية محليا مع وجود قادرين عليها في ظل حاجة المجتمع المحلي لها؛ فقد تساءل الأستاذ أحمد مشيخص عن سبب رفض العلامة محمد الهجري قبل وفاته طرح مرجعيته، وأجاب المحاضر بورع الهجري وخوفه – ربما – من عدم قبول مرجعيته لسيادة مرجعية الحائري لفترة طويلة، مشيرا إلى قبول الهجري بتقليد الناس له في المسائل الاحتياطية فقط.
وفي ذات الموضوع، علل الأستاذ جعفر العيد سبب التردد في طرح المرجعية بعدم تشجيع البيئة المحلية متسائلا عن دور البيئة العراقية والإيرانية في بروز مرجعياتهم في بلادنا؛ الأمر الذي نفاه المحاضر. الأستاذ جعفر الشايب أكد على إعادة النظر للتفكير بعمق وشمولية في أطروحة المرجعية المحلية، ردا على من يرى أن فيها خروجا عن المألوف ومنافسة لمواقع علمية أخرى، لا سيما والمنطقة تستحق ذلك لتاريخها العريق في المجال العلمي والديني لكثرة مراكزها الدينية وعلمائها الأكفاء، ثم تساءل عن النتائج الإيجابية التي يمكن جنيها بتحقيق هذه الأطروحة.
وأجاب المحاضر باعتقاده أولا بأهمية توفر قدرة من يطرح نفسه للمرجعية على تشخيص الأوضاع القائمة، والتعاطي معها بحكمة وحرية فكرية قد يفتقر لها الكثير، بالإضافة إلى صلاحيات يتصدى بها لقضايا المجتمع لمعالجتها. تخوفٌ سياسي أمني أشار الأستاذ حسين العلق لوجوده باحتمال تعريض المقام المرجعي لإمكانية تمرير سلطات سياسية أو الاعتراف بأجندة من خارج المذهب. وتساءل عن أثر التعصب التياري داخل المذهب الشيعي الذي بدا كعامل حاسم في مصير بعض المرجعيات، مستشهدا في ذلك بحادثة عدم شهادة مرجع ديني لآخر، الأمر الذي فجر أزمة قبل حوالي عقدين من الزمان بين خطي ذينك المرجعين.
وقد نفى المحاضر حصول ما ينفي ورع المرجعية في تاريخها بتمرير مخالفات دينية، مذكرا بالأدوار المشرفة التي قدمها العلماء في الماضي. وفي المقابل، أكد وجود تعصبية تيارية في المذهب قادرة على التأثير سلبا على المراكز الدينية في إيران والعراق إن لم يتم التحكم فيها بوعي. أسئلة أخرى تناولت موضوع الأعلمية، ومدى إمكانية معالجة المرجعية المحلية لما أثير مؤخرا في قضية الأخماس. وقد أجاب المحاضر على جميع الأسئلة بشكل وافٍ، ختم بعده حديثه بشكر المنتدى على فرصة مشاركته في برنامجه الثقافي.
المحاضرة الكاملة: