الدكتور عبد الحسين شعبان
بكل تواضع يقدّم لك المؤسسون والمشرفون تجربتهم في تأسيس ”منتدى الثلاثاء الثقافي“، على الرغم من أنها تجربة رائدة ومتميّزة؛ والواقع أنها تجربة تأسيسية تأصيلية لفضاء متنوّع بأفق مفتوح يتّسع لحوارات خصبة ومعرفية تشارك فيه كوكبة لامعة من المثقفين والكتّاب والأدباء والباحثين والعاملين في الشأن العام، جرى تأطيرها في ندوات واستضافات ولقاءات ومحاضرات ومعارض وكتب وآداب وفنون شملت مئات الفعاليات والشخصيات النافذة وفي الحقول الثقافية المختلفة.
لعلّ إحدى ميزات هذا المنتدى هو أنه تراكمي، أي أنه راكم الخبرة والتطوّر التدرّجي، حتى غدا مؤسسة معمّرة ومثلها يكون نادراً في الأوضاع العربية التي نعرفها، إذْ غالباً ما تبدأ مؤسسات كبرى، ولكنها بالتدرج تنتهي إلى حلقة ضيقة يضعف تأثيرها، لكن المنتدى الذي بدأ مشواره الأول بسيطاً أصبح مؤسسة حقيقية كبيرة في محيطها وفي تأثيرها. وميزته الثانية أنه تمرّس في الاختيار حتى لكأنه يحاول ملامسة الحياة الثقافية بمختلف أجنحتها، فلم يقتصر على حقل دون آخر لقناعته بتكامل وتداخل وتفاعل الحقول المختلفة في إطار منهجية شاملة تستوعب العام لتتفرّع منه إلى الخاص، أو تبدأ من الخاص لتتوسع فتنتقل منه إلى العام.
أما رسالة المنتدى فهي الإيمان بقيم السلام والتسامح وإعلاء قيمة الإنسان وكرامته وحريته ونبذ التعصّب ووليده التطرّف استناداً إلى قيم المواطنة، واعتماداً على مبادئ الحوار والتفاهم والشراكة الأساس في تحقيقها.
هكذا مرّ عشرون عاماً على قيام حلقة متواضعة لتصبح منظومة متنوعة تغطي المملكة العربية السعودية وتمتد لتصل أجنحة العالم العربي بمشرقه ومغربه. وكنت قد تابعت عملية التأسيس والتطوّر والندوات والحوارات بشكل مباشر أو عبر البريد الاليكتروني من خلال الصديق الأديب والمثقف الأستاذ جعفر الشايب الذي كنت على معرفة به ولقاءات مستمرة معه ومشاركات كتابية ومؤتمرات حقوقية وثقافية وفكرية على مدى زاد عن ربع قرن.
لعل تلك التجربة الوليدة التي ابتدأت في ”ديوانية“ أو ”براني“ كما نقول باللهجة العراقية الجنوبية أصبحت معلماً من معالم الحياة الثقافية في محافظة القطيف، وهي تجربة غنية وعميقة ومتميزة بانفتاحها وتعدديتها وتنوعها وانشغالها بمختلف جوانب الحياة الثقافية: اجتماعياً وفكرياً وفنياً وأدبياً وتاريخياً، خصوصاً سعيها للتواصل والتفاعل بين النخب الثقافية من داخل المملكة العربية السعودية ومن خارجها من الأصدقاء والصديقات والأخوات والأخوة العرب.
وقد سبق أن وجهت لي أكثر من دعوة مشاركة، لكن ظروف العمل والتوقيتات لم تكن موائمة، حتى حصلت الاستضافة الفعلية، خلال وجودي في الظهران لحضور مؤتمر مؤسسة الفكر العربي ”نحو فكر عربي جديد“ بتاريخ 2-5 ديسمبر/ كانون الأوّل عام 2019، وكانت تلك فرصة مهمة للاطلاع ميدانياً على منتدى الثلاثاء الثقافي، الذي كان يستعد للاحتفال بذكرى تأسيسه العشرين، ويعدّ برنامجاً خاصاً لذلك.
إن الانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي شهدته المملكة في السنوات الأخيرة انعكس على حياة المنتدى ذاته، فلم يكن الحضور ذكورياً، وإنما كان الحضور والمشاركة والنقاش نسوياً أيضاً، وهو أمر يقدّر للمنتدى وللأجواء الجديدة التي خلقتها التغييرات على حياة المجتمع السعودي.
وإذا كان أحد أهداف المنتدى يتجسد في تجسير العلاقات بين النخب الثقافية كما أشرت، فإن تجسير العلاقة مع الأشقاء العرب وبين الرجال والنساء على قدم المساواة، أمر مهم لكسر طوق العزلة والانطلاق إلى فضاء أكثر رحابة وتقدماً، وذلك من خلال مبادرات وفاعليات ولقاءات حول مختلف جوانب الحياة الثقافية. فالمنتدى حسبما عرفت وشاهدت ومن خلال الحضور المنوّع، يضمّ أجيالاً مختلفة من مدنيين ومتديّنين، ورجالاً ونساء واختصاصات متنوّعة؛ ويشمل نطاق عمله ندوات أسبوعية ومحاضرات رئيسية ومعارض فنية وأفلام قصيرة وتكريم لشخصيات وتوقيع كتاب وتعريف بمبادرات.
إن تنمية روح التسامح وقبول التنوّع والإقرار بالتعددية والحق في الاختلاف والعيش معاً والاشتراك في تحديد توجهات الثقافة والحياة العامة، إضافة إلى سعيه لتجديد الفكر الديني وإعادة إصلاح الخطاب المؤمن بالتسامح الديني وحقوق الإنسان هو برنامجه الآني والمستقبلي، وأعتقد أن الهدف الأعم والأوسع الذي يسعى إليه المنتدى هو خلق وعي ثقافي وحقوقي تنويري في جميع الميادين، من خلال إعلاء قيمة العقل باعتباره هبّة ربانية منحها الله للإنسان.