بعد أن خمدت نيران حرب الخليج الثانية والذي أحتل فيها النظام العراقي البائد دولة الكويت، ومضى مهدداً المنطقة برمتها بمزيد من الفوضى الشاملة، وبعد أن تكلفت المنطقة خسائر فادحة، مادية ومعنوية، واختلفت المعايير على جميع الأصعدة، وتبدلت التحالفات، ووقفت شعوب المنطقة مع حكوماتها، وبدا أن الأمر يحتاج لإعادة نظر في كل شيء في داخل المنطقة الخليجية برمتها، التركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتصور الجميع بعد طردت قوات التحالف جيش صدام من الكويت، بأن الأمور ستتبدل، وستكافئ حكومات المنطقة شعوبها على موقفها الوطني البار معها، وبدأ الجدل يدور حول طبيعة النظام السياسي والعلاقات الاجتماعية والبنية الثقافية التقليدية التي ربما شكلت عائقاً أمام تطور ونمو المنطقة وشعوبها، خصوصاً في الدول التي لم تبدأ ترسيخ قواعد الحوار والاعتراف بالاختلاف والتعددية والديمقراطية، الأمر الذي أستوجب من جميع دول المنطقة إعادة النظر بجدية في تجديد تلك البنيات التي لم تمسسها يد التغيير والإصلاح منذ أمد، وكأن حركة التاريخ قد توقفت على المستوى العربي عموماً، والخليجي خصوصا، كوننا نكتب هاهنا عن مشهد ثقافي خليجي عام، وسعودي تحديداً، لذلك كان الجدل عالياً في الداخل السعودي، وخصوصاً بعد حدث 11 من سبتمر المأساوي، وما حدث بعده من احتلال العراق وسقوط النظام هناك.
قلنا أن الجدل الشامل في كل شئون الحياة، بدأ بعد خمود نيران الحرب الخليجية الثانية، وما تلاها طول العقد الأخير من القرن العشرين، وبدأت النخب المثقفة نشاطاً مكثفاً في التحاور والنقاش والتشاور في ما يجب أن تكون عليه الأمور من تحقيق مصالح المنطقة وشعوبها، وقد أكدت تلك الحوارات على مشهدية ثقافية حيوية مستعدة للدخول في في رحاب الاختلاف والتعدد والتكامل على صعد مستويات العمل بما يخدم الإنسان المواطن والوطن، وبدأت أصوات النخب تتعالى في تفكيرها المعلن والمطالب بالتغيير، وبدأت مدن الملح على حد تعبير الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، والتي كانت توصف بمدن تتكدس فيه الرمال وكذلك الصمت، بدأت تخرج عن صمتها، وتطالب بحقها في حياة متحركة متجددة في كل مسارتها، الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، كهوية يجب إعادة قرائتها بروح العصر؛ كل ذلك كان عنوان اللقاءات والزيارات المتبادلة بين النخب من جميع المناطق.
في مثل هذ الجو الصحي والحيوي والمليء بالحركة والنشاط، والتي كانت محافظة القطيف أحد محطاته الرئيسية، لما تحتويه هذه المنطقة التاريخية المهمة، من نخب ثقافية وطنية متعددة الأطياف، والتي لا تزل تساهم عبر تاريخنا الوطني العام، في رفد أي حراك يستهدف مصلحة الوطن على مستوى التغيير والتجديد، وفي ظل كل ذلك تولدت فكرة مشروع إنشاء ” منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف” قبل أكثر من عشر سنوات، ليكون أول منتدى ثقافي شامل، والتي كانت فكرته في الأساس في استضافة من يمر على المنطقة من أصحاب الرأي سواءً كان زائراً أو محاورا أو آتياً للتشاور من أجل أمر يهم الجميع ويصب في مصلحة الوطن والمواطن، فكان سعي إدارة منتدى الثلاثاء ليكون أحد محطاته التي يلتقي فيها مع سائر المثقفين وذوي الرأي الفاعلين، ومن جهة أخرى كانت البواكير الأولى ” لمنتدى الثلاثاء الثقافي” ترتكز على الحوارات الثقافية المفتوحة والحرة والتي كان يساهم فيها مختلف الأطياف الثقافية والفكرية بمختلف مشاربهم وتعددها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في النقاش حول قضية ساخنة أو موضوع مهم يتم طرحه من قبل إدارة المنتدى، الأمر الذي عزز روح التثاقف واحترام الرأي الأخر، وأكد على روح التسامح والتعاون وعزز المشتركات وجعل الحوار مسلكاً واضحاً لما هو مختلف عليه، فجاءت تلك الحوارات لتجسر الفجوة بين أصحاب مختلف التوجهات، وتفتح باب الأمل نحو دفع الحراك الثقافي الشامل على مختلف المستويات والأصعدة، وتبني صرحاً من التعاون الوطني بين النخب فيما يأملوا تحقيقه والوصول إليه من أجل الوطن والمواطن.
طبعاً لم تكن جل تلك اللقاءات تجري بشكل سلس وموضوعي ودونما أي تدخل إجرائي وإداري، بل كان الأمر ينموا إدارياً مع تقدم المنتدى، فقد كنا راعي المنتدى الصديق الأستاذ جعفر الشايب وكاتب هذا المقال ندير معظم اللقاءات بالإضافة لبعض الأصدقاء الأساتذة والمختصين في بعضها الأخر، الأمر الذي تطور فيما بعد وصار المنتدى أكثر احترافاً، عندما صار الأعداد للقاءات مسبقاً، والتخطيط سنوياً، وكنت بمعية الأستاذ جعفر الشايب نرصد الموضوعات ذات الطابع الحيوي والمهمة وفي مختلف المجالات وعلى كل الأصعدة، ومن هم أهم المبرزين من أسماء شاخصة لتقدم معرفة موثوقة وعالية في ذلك المجال وتلك القضايا، بل وكنا نجري مسحاً شاملاً على كل مساحة الوطن ولكل الأطياف، وعلى المستوى الخاص والرسمي، حتى نرفد بقصدية واعية حالة التعدد بمزيد من الحيوية والنشاط، وقد كان ذلك التخطيط والمسح لا يغفل أبناء المنطقة الشرقية، وخصوصاً نخبة محافظة القطيف وأهاليها، بل وجعلهم المنتدى ضمن أولية نشاطه، فردياً من خلال المبرزين في مجال تخصصهم ونشاطهم، أو جمعياً من خلال تسليط الضوء على طبيعة نشاط تلك النشاطات الأهلية المؤسسية، وتقديم الفرصة لها لتعرف نفسها أمام الحضور، وتكسب اللقاء مع النخب الذين كثيراً ما قدموا رأيهم النقدي بموضوعية أثرت ذلك النشاط ودفعته نحو التقدم.
لقد كانت بداية التأسيس حافلة بالمخرجات النوعية، فلقد تبنى المنتدى لقاءات التأسيس لكثير من المبادرات الرائدة في المنطقة، فلقد دشن المنتدى في بدايته، أطلاق أول موسوعة ثقافية تاريخية شاملة، هي “موسوعة الساحل الإكترونية” والتي تعنى بالتراث الإنساني الثقافي للمنطقة الشرقية، والذي كان قد أسسها الصديق الدكتور توفيق السيف، وساهم كاتب هذا السطور مع أكثر من عشرين ناشطاً في إنجازها، وأشرف عليها فيما بعد الأستاذ جعفر الشايب بعد أن سافر صديقنا الدكتور السيف، للدراسة الأكاديمية في الخارج، كما أنطلقت عدة لجان أهلية من المنتدى، منها لجنة تكريم الرواد، ولجنة أصدقاء المرضى، كما كرم المنتدى نفسه كثير من المبرزين الذين أعطوا وأبدعوا في مجال تخصصهم أو في مجال عملهم، بالإضافة لمساهمة نخبة المنتدى في حفز الرؤية باتجاه كثير من المشاريع الاجتماعية والثقافية.
كما لم يكن هذا الإنجاز العشري ” لمنتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف ” أن ينشط طيلة عشر سنوات مضت لولا الروح المتوثبة، والذات الفاعلة والدؤوبة، والعلاقات الواسعة التي كان يتمتع بها الأستاذ جعفر الشايب على طوال مساحة الوطن، فضلاً عن المحيط الإقليمي، ولولا إصرارنا معه على أهمية الدور الذي يقوم به المنتدى كمنتدى أهلي وطني، في المساهمة مع بقية المنتديات الوطنية في رفد الساحة الوطنية بالمزيد من الحراك الثقافي الحيوي الذي ولا شك رفع من قيمة سقف الحرية في الحوار في كثير من القضايا المهمة والحساسة والتي كان التطرق إليها يثير الكثير من التحسس الاجتماعي والسياسي العام، والذي ربما كان محفزاً للاعتراض على بعض ندوات المنتدى، في الجانب الاجتماعي عند بعض من لا يقرون حرية الرأي وثقافة التعدد والتسامح والقبول بالآخر والتثاقف معه، وفي الجانب الرسمي الإداري، كان الاستفسار وارداً بعد أي ندوة تمس الجانب الثقافي المستجد والمتصل بمسألة الحريات والتمييز الطائفي والمواطنة والعدل والمساواة وسيادة القانون والحكم الرشيد والشراكة الوطنية، وغيرها من مسائل لم يعتد المسئولين الرسميين على أن لبقية المواطنين الحق في مناقشتها وإعطاء الرأي فيها. وفي الأخير كان لمنتدى الثلاثاء الحفز المهم لقيام منتديات أخرى في المنطقة لتتكامل معه في العطاء الثقافي لصالح الوطن والمنطقة، وقد تعامل معها المنتدى بكامل الدعم والإشادة والإعلان عن ندواتها والحضور والتنسيق، الأمر الذي أعطي المنتدى قوة الريادة في العمل الثقافي وبأخلاقية ناجزة، تنبع من إيمان عميق وحقيقي بحق الأخر في الحضور والتمثل وإبراز الدور الذي يليق بالجميع وبالمستوى الذي يظهرون به نشاطهم. لذلك كله جاء التكريم الوطني الأخير للمنتديات الثقافية الوطنية والذي كان منها منتدى “الثلاثاء الثقافي بالقطيف” بحجم ذلك العطاء وذلك الإنجاز المتحقق. والذي نتمنى أن يتبعه نظام يرخص للمؤسسات الثقافية والاجتماعية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني الذي صار لزاماً على الوطن أن يحتفي بها جميعاً لما تقوم به من جهد وطني رفيع لخدمة الوطن والمواطن.
الأربعاء, 13 نوفمبر, 2024
أخر الفعاليات
- ناقشها منتدى الثلاثاء الثقافي بـ #القطيف ” قراءة في نظام الاحوال الشخصية “
- الكاتب الحميدي يصدر كتابًا جديدًا يدعو إلى العودة للأصول والثوابت
- مختصون: نظام الأحوال الشخصية «نقلة نوعية» للمنظومة القانونية
- محامون في ندوة الثلاثاء الثقافي : نظام الأحوال الشخصية شكل نقلة حقيقية
- محامون في ندوة الثلاثاء الثقافي : نظام الأحوال الشخصية شكل نقلة حقيقية
- محامون في ندوة الثلاثاء الثقافي : نظام الأحوال الشخصية شكل نقلة حقيقية
- محامون في ندوة الثلاثاء الثقافي : نظام الأحوال الشخصية شكل نقلة حقيقية
- محامون في ندوة الثلاثاء الثقافي : نظام الأحوال الشخصية شكل نقلة حقيقية
- ثقافي / “قراءة في نظام الأحوال الشخصية”: ندوة ثقافية بمنتدى الثلاثاء الثقافي
- محامون في ندوة الثلاثاء الثقافي : نظام الأحوال الشخصية شكل نقلة حقيقية
قد يعجبك أيضاً