بقلم الأستاذ محمد رضا نصر الله
بين غرارة الصبا ويفاعة الشباب – وهو يقلب في مكتبة والده صفحات من كتاب «ذكرى السيد ناصر الأحسائي» – تناهى إلى سمعه اسم المحتفى به هذه الليلة، بالإشارة إليه خريجًا للفلسفة في كلية الفقه، ساعيًا إلى تَرَسُّم خطى والده، الذّي فُرِشَتْ له سجادة المرجعية، وقد أصبح أصوليًا متبحرًا، بعدما غادر مسقط رأسه الأحسائي، إلى حوزة النجف الكبرى، محركًا ملكة الاجتهاد تحت منبر السيد الآخوند المرجع الضخم، وأستاذ أجيال من المجتهدين الأعلام داخل النجف وخارجها، حين كانت في بداية القرن العشرين، تحاول اختراق سورها «الاحتمائي» نحو التفاعل المضطرد مع عواصف العالم الحديث، والنجف بعد قرون مظلمة تصبح – مرةً أخرى – ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، لتنتهي بثورة العشرين، دولة تلم أطرافها المبعثرة في العراق الحديث، بعد معركة الشعيبة المناهضة للاحتلال البريطاني، بزعامة أحد أبرز زملاء السيد ناصر الأحسائي.. أعني الفقيه والشاعر محمد سعيد الحبوبي، ومئات غيرهما ممن أجيزوا بالاجتهاد من الآخوند.. هذا الذي نبهه وعي اللحظة الحرجة، إلى التفاعل مع ظواهر الاجتماع السياسي والثقافي، فاتحًا بحذر مغاليق الحوزة العلمية على مصاريع المتغيرات الحديثة، عندما أعطى الإشارة بإنشاء المدارس الجامعة بين العلوم الحوزوية ومناهج التربية الجديدة، فدخلت اللغة الإنجليزية والفرنسية إلى المجتمع النجفي – كما يؤكد أحد أبنائه الأكاديميين د. حسن عيسى الحكيم – في وقت كانت المطبوعات الحديثة في القاهرة وبيروت من كتب ومجلات، تتسلل إلى مكتبات النجف – كما يذكر شاعرها النابغة محمد مهدي الجواهري في «ذكرياته».
…..
في هذا الفضاء المحتدم بغليان الصراع بين التيار الديني المحافظ والتيار الديني المجدد، برز زميل آخر للسيد ناصر الأحسائي، هو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، حاثًا الخطى نحو راية الإصلاح، التي رفعها الشيخ ميرزا حسين النائيني، مرفرفة بأطروحته البارعة في الفقه السياسي، منتصرًا للمشروطة المقيدة بالدستور، ضد المستبدة القاجارية والعثمانية المطلقة.
في خضم هذه الأجواء المتلاطمة، وجد الشيخ كاشف الغطاء.. الذي جمع إلى فقاهته المتأتية من أستاذيه السيدين الكاظمين اليزدي والآخوند، الوعي العصري بالقانون فله حاشية عليه، وكذلك كتابه «تحرير المجلة في الأحكام الشرعية».. وجد نفسه مرتهنًا للنوازل الحادثة الجديدة، ولأنه تحصل على ملكة تشقيق الأحكام الشرعية من متونها الفقهية، فهو لم يعتبر المثوبة حاصلة ببناء مسجد أو إقامة سبيل ماء، ما دامت حاجة الناس، متحققة في بناء مدرسة أو تشييد مستشفى.
يذكر جعفر الخليلي في موسوعته السيرية «هكذا عرفتهم» أن الشيخ كاشف الغطاء شجع الأثرياء داخل النجف وأطرافها وامتداداتها، لأن يبادروا إلى صرف حقوقهم الشرعية في بناء غرف في مصح «حمانا» اللبناني للأمراض الصدرية، حيث كان يستشفي على أسرّته – وقتذاك – عراقيون وغير عراقيين – منهم بعض قرباي – وكذلك حفز مقلديه على صرف حقوقهم الشرعية في إنشاء المدارس والمصحات، ما دامت هناك مساجد وأسبلة تفي بالحاجة، فالزائد كالناقص.. كما يعبر مؤلف كتب «الدين والإسلام» و«أصل الشيعة وأصولها» و«المراجعات الريحانية» وغيرها.
…….
هذا ما انتهجه الشيخ محمد رضا المظفر.. الفقيه الأصولي المجدد في صياغة «عقائد الإمامية» وتحرير المنطق من مخطوطاته الحجرية والتدريسية المعقدة، مشتغلًا على الفلسفة اليونانية، حيث كان معجبًا بنظرية المعرفة لدى أفلاطون في المثل العليا، ومعارضًا تلميذه أرسطو الذي أنزلها من سماواتها إلى العالم المادي.. وبلغ من شدة إعجابه بالفلسفة الأفلاطونية أن عارض الشيخ الرئيس ابن سينا حولها.
هذا المظفر تمكن من الظفر بوعي حقائق العصر، ورغم معارضة المحافظين المتشددة، فقد واجهها بعدته العلمية ووعيه الحضاري، بتأسيس جمعية منتدى النشر في ما بين الحربين العالميتين، متجاوزًا بها التحجر الذهني والتحجر الطباعي، متبنيًا إعادة صياغة العلوم الحوزوية ومدوناتها، وفق رؤية جديدة، وطباعة حديثة، بإصدار الجزء الخامس المتبقي من كتاب «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» سنة 1938م محققًا بطباعة لبنانية فاخرة – هي من مقتنيات مكتبة والدي – وقد تصدرته مقدمة ضافية حبرها المحقق المجدد الشيخ عبدالحسين الحلي، عن علمية مؤلفه الشريف الرضي وشعره.
لم يكتف الشيخ المظفر بهذا، بل طفق يؤلف الكتب ويلقي المحاضرات، مبهرًا بمعالجاته ومنهجه وأسلوبه، في العقائد والمنطق والتاريخ، ومشجعًا على إصدار المجلات والصحف بدعم معنوي ومادي من السيد أبي الحسن الأصفهاني.. وما أدراك ما السيد أبو الحسن الأصفهاني.. وعندما نضجت ثمرة منتدى النشر، بتحويلها إلى كلية الفقه والعلوم الإسلامية سنة 1958م فاجأ طلابه باطلاعه الواسع على المعارف القديمة والجديدة، في محاضراته عليهم عن الفلسفة الإسلامية.
لقد جمع في مناهج الكلية الأكاديمية، بين العلوم الحوزوية في التفسير القرآني والفقه الاستدلالي وعلم أصول الفقه المقارن.. وبين مواد المناهج الحديثة في علوم النفس والاجتماع والفلسفة والأدب والمالية والاقتصاد، إذ تناوب على التدريس فيها أساتذة أكفياء من الحوزة، وأكاديميون بارزون في جامعة بغداد.. واتساقًا مع وعي الشيخ المظفر الاستثنائي، وموقفه الفكري الحر، لم يتردد من الإقدام على ممارسة النقد الذاتي في كتابه «آراء صريحة» الذي ظل طي الكتمان في حياته، لشدة جرأته في نقد التعصب الديني والانغلاق المذهبي، مؤكدًا بلياقة عالية على التعايش بين أتباع المذاهب الإسلامية.. ومعتنيًا بتطوير المنبر الحسيني، ليكون متجاوبًا مع أسئلة مستمعيه العصرية، وإشكالاتهم على تقليديته ومبالغاته، حتى كاد ينشئ كلية متخصصة في تخريج خطباء عصريين، لولا أن وأدها – وهي في المهد – التيار المحافظ.. هذا الذي استمر وابل غضبه مصوبًا نحو قلب الشيخ حتى آخر رمق من حياته، الحافلة بالإنجاز المؤسساتي والإبداع الفكري، فقد ترك بعد رحيله المفاجئ – رغم كل الصعاب والتحديات – جيلًا من خريجي كلية الفقه، أصبحوا أساتذة لامعين في الفقه والأدب والفلسفة.
وضيفنا المحتفى به العلامة السيد علي السيد ناصر السلمان الأحسائي واحد من أولئك، فهو خريج كلية الفقه في الفلسفة الإسلامية.
فهل لهذا تمثل روحية أستاذه الإصلاحي، فلم يبق حبيس الدرس، والاكتفاء بإمامة المصلين، وإنما انطلق كاسرًا طوق العزلة بين عالم الدين والشأن العام، معالجًا قضايا المجتمع ومتطلباته بحكمة عرفانية وبصيرة سياسية.
هذا ما لمسته في حوارات ومواقف مع سماحته، أسفرت عن ما يعزز التعايش الوطني، وتنمية المجتمع الأهلي، حيث دأب سماحته من قبل ومن بعد، على رعاية المشروعات الخيرية وتشجيع رعاتها، متوسطًا بذلك العلاقة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، بمبادرات مؤسساتية ماثلة أمام الأنظار.
وما تبنيه الكامل لمشروع إنشاء مركز الكشف المبكر على أمراض السرطان في القطيف، وإقامة مركز صحي هنا وآخر هناك، إلا نماذج مشرقة مستلهمًا فيها مسلك العلماء الأعلام ممن ذكرنا، بتوظيف الحقوق الشرعية في إنشاء أقسام طبية ومراكز اجتماعية ماسة بحياة الناس، وملبيةً متطلبات المجتمع.. فهذا ما نص عليه الشارع الحكيم، حيث أجاز المرجع الأعلى السيد علي السيستاني لمقلديه إعطاء الحق الشرعي مباشرةً دون وسيط لمحتاجيه من الفقراء والأيتام.. وفي هذا إشارة ساطعة بممكنات استثمار الحقوق الشرعية، في مشروعات الصحة والتعليم والثقافة والرعاية الاجتماعية، متمنيًا أن أرى مركزًا ثقافيًا وآخر للأبحاث والنشر.. بل إنشاء كلية تقنية متخصصة، إلى جانب عيادات طبية متخصصة، تدور عوائدها في اقتصاديات الحقوق الشرعية، دون الاقتصار في دعمها على وكلاء المراجع، فدعوتي هذه تشمل متولي الأوقاف – وهم كثر – لكنني حين أفتح عيني أكاد لا أرى لهم أثرًا!! حيث لا حسيب قانوني ولا رقيب إداري، على مداخيلها ومصارفها في جهاتها، من قبل دائرة الأوقاف والمواريث.. موطدًا الأمل في المسارعة باستثمار عوائد الأوقاف الهائلة لديهم في خدمة المجتمع على كل صعيد، لئلا نرى «نعمة موفورة وإلى جانبها حقٌّ مضيع» كما قال سيد المتكلمين، وحكيم الحكماء، وإمام المتقين، وصوت العدالة الإنسانية بلا منازع الإمام علي بن أبي طالب .