شارك أعضاء منتدى الروضة الثقافي والاجتماعي (المركاز) بجدة في الندوة الثقافية التي استضافها منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف مساء الثلاثاء 17 ذو الحجة 1426هـ الموافق 17 يناير 2006م وبحضور ثقافي واعلامي متميز ألقى فيها الدكتور زيد الفضيل محاضرة حول “المثاقفة في التراث المكي”. وأدار الندوة الاستاذ ذاكر آل حبيل عضو اللجنة المنظمة للمنتدى حيث استعرض اهمية الثقافة في بناء الانسان وبلورة وعيه وتمكينه من التعايش مع ابناء جنسه، مشيراً الى اهمية المنتديات الثقافية الخاصة في بث الوعي ونشر الثقافة وتعزيز التواصل بين مختلف أطياف المجتمع واتجاهاته. بعد ذلك استعرض مدير الندوة ملامح من سيرة المحاضر الدكتور زيد الفضيل الحائز على شهادتي ماجستير في فلسفة اللاهوت وفي التاريخ الحديث من جامعة الملك سعود ويعمل حالياً على انجاز متطلبات شهادة الدكتوراة في التاريخ من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وعمل محررا ثقافيا في جريدة الرياض ورئيساً للقسم الثقافي بمجلة الحج كما انه احد اعضاء مجلس ادارة منتدى الروضة الثقافي والاجتماعي بجدة.
تحدث المحاضر بداية عن تجربة منتدى الروضة بجدة ومبررات تأسيسه لتعزيزالتضامن وتنمية المعرفة والجمع بين الهم الاجتماعي والفكري، مستعرضاً تطلعات المنتدى الى تفعيل حركة التفاهم والحوار بين مختلف الأطياف الفكرية وتشكيل بوادر ما يمكن أن يتخلق في الوعي من فهم سليم لدور ووظيفة مؤسسات المجتمع الأهلي. وأشار الى ان المنتدى حوى ضمن مؤسسيه ورواده علماء ومثقفي جميع أطياف المجتمع الفكرية والمذهبية الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تحقيق خاصية الاصغاء لبعضهم البعض وتفعيل جوانب الحوار البناء بعيدا عن المزايدات الكاذبة والخطاب الصوتي العقيم مواكباً الرؤى الوطنية القاضية بذلك والساعية اليه.
وقرأ المحاضر بعد ذلك ورقته التي جاءت تحت عنوان “المثاقفة في التراث المكي – الشخصية المكية نموذجاً” واستهلها بتعريف الثقافة بأنها “جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه، او فئة اجتماعية بعينها، والتي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة والحقوق الاساسية للانسان ونظم القيم والمعتقدات والتقاليد” (حسب اعلان مكسيكو عام 1982م) موضحا الفرق بين مفهوم “الثقافة” و “العلم” و”المعرفة” وماشاكلها. وتحدث الدكتور الفضيل بعد ذلك عن تأثر الشخصية المكية بقدسية المكان وبروح ومظاهر التعاليم الدينية الحاضة على قيم التسامح والمحبة والخير.
وانطلق المحاضر متحدثاً عن دور مكة الثقافي قبل الاسلام وبعده وحتى وقتنا الراهن حيث انها مثلت شكل الدائرة للاشعاع الديني الثقافي المتوهج فكانت المصدر والانعكاس في وقت واحد، فمنها خرج العلم والعلماء واليها عاد العلم والعلماء عبر آلية ما يعرف “بالمجاورة” لبيت الله وكعبته المشرفة. واحتفظت مكة المكرمة بمرجعيتها اللوجستية لمختلف القوى السياسية الراغبة في تسيير امر الامة اذ ما من سلطة يمكنها ان تحوز على كامل الشرعية لبسط نفوذها السياسي على العالم الاسلامي الا بعد تمكنها من حكم مكة المكرمة.
وتحدث الدكتور الفضيل عن المثاقفة باعتبارها عملية التغيير والتطوير الثقافي الطارئ على مختلف الجماعات البشرية جراء حميمية التواصل والتفاعل بين بعضهم البعض، الأمر الذي تظهر ملامحه في مجمل الأنماط الثقافية السائدة، مؤكدا على أن ذلك يؤدي الى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهوية الوطنية أو القومية وثوابتها، وعليه فإن شيوع ثقافة المثاقفة في أي مجتمع بصورتها الايجابية ستوفر مساحة كبيرة لنماء ثقافة ايجابية تعنى اساسا بنقد الذات من خلال بعث حركة نقدية بينية شاملة. وأكد المحاضر في ورقته على أن المكيين عاشوا سمات وخصائص ثقافة المثاقفة بسبب ماقدر لمدينتهم أن تكون أول نوذج للمدينة الكونية تفتح ذراعيها للآخر مهما كان جنسه أو مكانته أو مذهبه. ولخص توصيف الشخصية المكية ضمن خصائص الشخصية الحجازية حسب وصف الرحالة الأديب المصري محمد لبيب البتنوني في كتاب “الرحلة الحجازية” بقوله “خليط في خلقهم، فتراهم قد جمعوا إلى طبائعهم وداعة الأناضولي، وعظمة التركي، واستكانة الجاوي، وكبرياء الفارسي، ولين المصري وصلابة الشركسي، وسكون الصيني، وحدة المغربي، وبساطة الهندي، ومكر اليمني، وحركة السوري، وكسل الزنجي، ولون الحبشي، بل تراهم جميعاً بين رفعة الحضارة وقشف البداوة”.
واكد المحاضر على ان الأثر الايجابي لحركة المثاقفة في مكة المكرمة امتد الى الجوانب العلمية ايضا مشيراً الى ان الوافدين كانوا محور النهضة العلمية ومصدر نشاطها من خلال مشاركة العديد من الجاليات السالفة في نمو وتيرة الحركة العلمية عبر اهتمامها ببناء المدارس واقامة الحلقات العلمية. وتحدث الدكتور الفضيل عن التأثير الايجابي للمثاقفة في مكة المكرمة على صعيد التنوع المذهبي حيث حضت كل طائفة برجالها الذين يعملون على خدمتها وتسهيل حركتها خلال مواسم الحج والعمرة، كما تعددت المذاهب في مكة بتعدد السحن، فكان أن وجدت المقامات المذهبية المتعددة وتقاسمت أروقة الحرم وحصياته حلقات العلم على المذاهب الأربعة. وأكد في نهاية محاضرته على أمله في إعادة وتيرة هذه الحالة الايجابية وتوسيع دائرتها لتشمل مختلف المذاهب الاسلامية التي اقرتها وثيقة مكة التاريخية مؤخراً ونص عليها المؤتمرون من زعماء الأمة وقادتها.
ثم تحدث الشيخ الدكتور عدنان الزهراني – عضو منتدى الروضة الثقافي الاجتماعي- مؤكدا على الدور الذي لعبته مكة ولازالت في المجال الثقافي على مستوى العالم الاسلامي ومشيراً إلى اهمية التواصل بين المنشغلين في هذا المجال الهام وتعزيز المشتركات من خلال التعارف وتبادل اللقاءات والحوارات. كما تحدث الدكتور واصف كابلي عن أنماط الحياة الاجتماعية والتجارية والثقافية في مكة المكرمة ودور أهالي مكة في اهتمامهم في خدمة حجاج بيت الله قبل انتشار ثقافة الاستهلاك والسعي وراء الربح المادي من ذلك، مشيرا الى اطلاعهم وتعاطيهم مع مختلف الثقافات والاتجاهات المذهبية والفكرية وتعاملهم معها بصورة ايجاية ومتبادلة. كما تحدث الشيخ محمد العطية حول تجربته الشخصية في معيشته في مكة المكرمة والايجابيات التي عايشها خلال هذه التجربة، مؤكدا أنه لم يشعر بالغربة أبداً وهو يعيش بين مختلف الأنماط الثقافية والفكرية بل وجد فيها ثراءأ فكرياً متنوعاً.
وعلق راعي المنتدى الاستاذ جعفر الشايب في ختام الندوة شاكرا ضيوف الأمسية على حضورهم ومشاركتهم مشيداً باهمية المحاضرة والورقة المقدمة التي تقدم نموذجاً رائعاً لحالة التنوع والتعايش الايجابي في المجتمعات البشرية مؤملاً أن تسود هذه الحالة بين مختلف أطراف المجتمع. وفي ختام الندوة أجاب ضيوف المنتدى على اسئلة الحضور واستمعوا الى مداخلاتهم وتعليقاتهم حول ما طرح في الورقة من قضايا وآراء.